عجاجٌ كلها الرؤى، ضبابٌ كله الطريق. لا الخيولُ تصلُ إلى مروج الينابيع البعيدة وتشبع، ولا الذئابُ تكتفي بالتهام الأرانب وتسكت. غامضٌ وجه الزمن، وضاجةُ لحظة السأم فيه، وكيٌ لافحٌ هبوب سكونها على المنسيين في الغفلة. أولئك الذين خاط الصمتُ شفاههم وانسلّ سمّ الوهمِ في عروق ذهولهم وأفكارهم. وأذكرُ منهم: الرجل المنحوت من ضلع شجرة ميتة، لكنه حيٌّ في حضن المرأة التي ظلت تغذيه بأحلامها. وأذكرُ مدرّس الجغرافيا الذي أكل الخرائط أمام التلاميذ، لكنه غرق في فيض أنهارها. ثم جاء قضاةٌ من فوضى القواميسِ ومنحوا البراءة للأطفال وحدهم. وجاء شاعرٌ يهذي بفمٍ ملكوم، ولم نفهم من تلامس برطميه سوى أن الحب موجلٌ، والسائرُ في وعورته لا بد يُنحر، ولا بد لفكرة العشق أن تصادف وأدها.
دحرج النار، انفخ في صقيع دخانها كي تبني جدارك العالي. الكون كله سحابة، مجرد اتساع دائرةٍ أنت ظننتها تضيقاً، وظننت الناس ينتسبون للعقل، لكنهم جُنّوا، وسفكوا دم المسافة، وسيّجوا منطق الأشياء بعورة الأشياء، وصار أن حصادهم مجرد رماد من نبت رماد. لا شكل للمعنى إلا لو كلّه نور، وكل بقاياه همس ملائكة، وكل أجنحته خفقات عشّاقٍ وتأوهات ملهوفٍ. عندما على ورقةٍ يولدُ طفل الحقيقة وأنت تربّيه مختبئاً بين الأقلام التي تكبرُ لكنها خائفة. وتُجلسهُ مع المفطومين برغبة الحريّة، لكنه يفطسُ قبل أن يسبّح بتمرداته ويعلن العصيان على العصا.
أيها الشاعر، سطراً بعد سطرٍ سيكونُ نزولك في الغرق. عندما تُلقي أمام الجموعِ خطبة التمساح ويجرّكَ دمعهُ إلى الشفقة على الضحيّة التي تشبهك، على القناع الذي كلما رميته في الماء صار يشبه وجهك الحقيقي. وكأنما أنت وما تخافه ضدّان يتحدان، أو كأنما أنت وما تشتهيه سيفان عضّ كلاهما على جرح كليهما واختلط بينهما دم الأسماء والأشياء. فمن أنت ومن أنا في الظلام وقد فقدنا ظلالنا؟ وهل يهمّ لو علّقت قلائدي على صدرك وطعنتك بإصبع الشك كي تستيقظ شهوة الانتباه فيك؟ وهل يكفيك أن يكبر الهذيان في نطق روحي ولا يسمعه أحد؟ أم أننا وجهان لصنمين تحجّرا في انتظار أن يولد الضوء، ونسي النحّاتُ أن يخرجنا من صخرة الصبر.
كل الوجود ناقصٌ، إلا لو أتت لحظة العشق، حرةً، لترفعنا نجوماً في حواشيه.