تأخذنا ذاكرة وذكريات المعمرين إلى عوالم عميقة الأغوار، منها ما يجعلنا ننتشي بعبق الماضي، ومنها ما يجعلنا نترحم عليهم وعلى صبرهم وجلدهم، والبعض الآخر يسافر بنا إلى ضفاف تهدئ من روعنا كلما اختلطت أطياف المستقبل بالماضي. جلست مع شخصية مرموقة في إحدى الليالي، وسار بي بعيداً في أعماق ذاته وأسرار نفسه ومتاهات شبابه، وكان يستطرد بالشعر والأمثال الشعبية في هدوء وسكينة حتى خلته يقرأ من كتاب فطلبته: «بوسلطان، عد علي قصيدة لا تنساها وتذكرك بالزمن الجميل»، فقال: «يا ليتني للزين لباس ثوباً عللى ينبه والاويه والا مشط يسحى به الراس واشم ريح العطر لي فيه»، فضحكنا حتى نظر إليّ من زاوية قدرها 45 درجة، وقال: «ما لحقتي عليّ يوم أنا شباب» فقلت له: «دامك تذكر هذه الأبيات تراك شباب». ونظر من حوله كمن يحيك مؤامرة وهمي في أذني: «الأول كانت الدنيا غير» فقلت له: «يبدو كذلك فكل حد كان يشتغب ومنشغل بشغله الشاغل هو العيش بستر وأمان... ماكان عند الحريم (أسستنت)». فأكمل زاوية نظره حتى أصبحت مستقيمة وقال مدركاً لتلك المأساة: «إن يتك عويا من سفيهاً فخلها وإن يتك من غير السفية فسال». وبعد فنجان القهوة الثالث أغلقت التسجيل وشكرته على حفنة المعلومات التي تؤصل واقعاً من القيم والمفاهيم الأصيلة.
بعد يومين من جلستنا الأخيرة، اتصلت به وكنت أنبش في تفاصيل ما رواه لي، فأضحك أحياناً وأتحسر تارة أخرى وأكون بين نارين عندما لا أعي مغزاه من بعض الأمثلة والتعابير. سألته: «هاه بوسلطان أسمع صوتك في السيارة وين بها ماشاء الله». فرد: «ساير كافية فرساتشي، أبا اطعم القهوة اللي فيها زباد»، فضحكنا كالعادة وضحكت الدنيا لي ومعنا، فكم هو الشغف بتفاصيلٍ تعمق جذورنا. فهمت منه شيئاً لا أنساه فقد قال لي قبل أن يُغلق الهاتف: «ام بالخير، احسني النية دوماً وشوفي الله شو بييب لك».
***
للعارفين أقول: تقول والدتي، رحمها الله، «حتى الشينين يحصلون حد يحبهم لكن اللي يحبك صدق هو الحي، فـ الحي يحييك والميت يزيدك غبن». ونحن ننبش في تاريخ وتراث الآباء والأجداد، بينما يبحثون هم في معطيات حياتهم المتغيرة، وهذا ما اعتادوه في صراعهم للبقاء. كلما نبشنا كلما كبر الوطن وتضحيات الأوليين، وأحب تسميتهم بالطيبين، من لايصدقني فليسمع مايردده الموظفون عن بعض المديرين.