مشّاؤون كثرٌ ورائي، ولا أظنهم وصلوا يوماً لانفراج. هم سادةٌ إذا استقام ظل الطريق فقط. وعبيدٌ عند انسداده. والأخلاق التي زرعها الأولون في طين الكرامة، لم تعد تجدي معهم وقد انتسبوا جميعاً إلى مذهب التآكل والضمور. حيث يفتحُ الرجل باب الحديقة فيرى القرود تأكل الورد والفراشات. ثم يفتح حقيبة عمره، فلا يجدُ صورة أمه وأبيه متعانقين كما يجب، والشمسُ والقمرُ فوقهما غائبان بفعل فاعل. لقد طُمست، وإلى الأبد، فكرة أن يكتمل الحب، وأن يكون له قناع كوجهي، أو يدان تلتقيان عند تبجيل صنم الوهم، وعند التصفيق لسقوطه أثراً بعد أثر. وسيحدث كل هذا لأني كلما عجنتُ الكلام، اتخذ شكل قفص. وكلما حملته ومشيت، هاجمتني طيور الذكريات، ورمتني الأشجار بأثمارٍ فاسدة. وكي أصل، عليّ أن أبتدع وحدي فكرة المسافة التي يقطعها البشر، وفكرة الدرب الذي يقودني لملاقاة ذاتي.
كن معي، حتى لو تلفّت وجهكَ للتأمل في قدوم الغريب. أنا وهو، كلانا عذابٌ لروحك، كلانا انشطار ذاتك وربما تشظيها. أما خلاصك، فمجرد أمنية حمقاء. كأن تسكب الزيت على نارٍ مطفأة، فتنزلقُ. أو كأن تلتقي بامرأةٍ عند ساعة يأسها في انتظارك، وحين تقبّلُ تاجها، تراها ميتة. أو عندما يضع الفيلسوف قبعة الجنون على رأسك، فينبتُ جناحان لعقلك الأملس، وتبدأ تطيرُ وأنت في الحقيقة جاثٍ في مكانك. ولو يناديك من بعيدٍ الطفل الذي كنته بالأمس، هل تراكَ تذهب لانتشاله من سراب أغواكَ، وشرّد خطوكَ، وقادك إلى عطشٍ للحقيقة وسقى مرارتها في جوفك؟ أم ستجلس مثلي منتظراً انقشاع العتمة وأنت لا تملك حتى جرأة النفخِ عليها؟
صِف لي: ما هي العينُ مغمضة أو عليها غبار مجدٍ دفين؟ وصِف لغيري: كيف لامرأةٍ منعوها من مرآتها أن تحدّث نفسها؟ وأن تلبس فستانها النجمي في مولد القصيدة، وأن تخلعه في ساعة انقضاض ضوء الصبح على جسد الليل الضرير؟ وإذا التقينا، أنا وهي، في سرحان طفلٍ، هل أقدّم لها خاتم الخديعة؟ أم أجلس قبالتها في لوحة الحائط ونترك للرسام أن يمحو وجهينا، أو يبلل ريشته من دمعنا ليرسم البحر هادراً وفي أفقه تتلاطمُ أمواج صبرٍ قديم؟
مشاؤون كثرٌ أمامي، ولا أظن طوابيرهم تنتهي. ولا تتسعُ لي عينُ الوقت كي أرى ضوء النهاية يوقدُ في حلم بعيد.