أثناء تحضيرنا لمهرجان البردة استوقفني كتاب صدر العام الماضي بعنوان «سوسيولوجيا الفنّ الإسلامي» للكاتب فريدريك معتوق، لربما من أهم الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة. يناقش الكتاب بتعمق ويدافع عن أصالة الفن الإسلامي وحيويته، حيث يؤكد على خصوصية وتفرد التراث الفني الإسلامي عن غيره من الفنون، حيث يقول الكتاب «في الفن الإسلامي، الفن هو العلم، والعلم هو الفن. بل إن العلم هو أساس الفن في ثلاثة مجالات هي: هندسة العمارة والزخرفة، والأرابيسك والخط. فلولا إتقان علوم وصناعة هذه التعابير لما ظهرت وتبلورت هذه الفنون بكل بساطة».
الفن الإسلامي صناعة، وعلى الصانع أن يتقن الصَنْعة، ويجيد الحرفة، لأنها عنوان الحضارة الإسلامية، والمعبر الأول عن عظمتها وقوتها وإنسانيتها وتسامحها.. من هذا المنطلق، شهدنا الأسبوع الماضي في مهرجان البردة نقاشات تطرح لأول مرة على طاولة البحث، تشكل أرضية لبدء حوار عالمي جاد حول الفنون الإسلامية تشترك فيه الحكومات والمنظمات الدولية المعنية بالثقافة والفنون... مواضيع كثيرة، تنوعت بين التصميم، والعمارة، والفنون الإسلامية في العصر الرقمي، واستكشاف أسواق جديدة للتصاميم الإسلامية، والموسيقى، وحوار الأجيال بين الأب وابنه، كلاهما لديه شغف بالفنون الإسلامية، كلٌ من منظوره ورؤيته وعمله الخاص.... جميع هذه العناوين وغيرها كانت تنظر إلى الفن الإسلامي بعين المستقبل، وليس مجرد الوقوف على أطلال الماضي الذي تحدثنا عنه كثيراً خلال السنوات الماضية، فلا بد من خلق تواصل بين الماضي والحاضر والاستعداد للمستقبل من خلال تنشئة أجيال قادرة على استيعاب جميع الحقب الزمنية حتى نستطيع أن نحفز ملكة الإبداع لديهم... فلا بد من استلهام أفكار وأعمال فنية من إبداعات الحضارة الإسلامية تتوافق مع روح العصر، وتكشف أسرار جمال فن عريق ظلّ طوال قرون من الزمن محافظاً على خصوصيته، قادراً على التجديد والإبداع والتأثير.
مفرح جداً ما تلقيناه من أصداءٍ إيجابية فاقت التوقعات، وتفاعل جماهيري كبير على مختلف المنصات الرقمية... مهرجان البردة إنجاز جديد يسجل لدولتنا، ومبادرة تدعو للفخر والاعتزاز، فالإمارات كانت السبّاقة في حشد الخبراء والمؤثرين وصناع القرار وشخصيات ثقافية من جميع أنحاء العالم، ونسجت شراكات محلية ودولية، بهدف خلق وعي عالمي يركز على الفنون الإسلامية، ويعطيها حقها في الاهتمام والرعاية، لأن هذا الهدف يحتاج إلى عمل تكاملي يتطلب مشاركة الجميع من دون استثناء. وأود في هذا الصدد أن أشيد بمبادرة مملكة البحرين ممثلة في معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيس هيئة البحرين للثقافة والآثار التي تقدمت بطلب لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» لتخصيص يوم عالمي للفن الإسلامي ليوافق 18 نوفمبر من كل عام بهدف الترويج للفن الإسلامي بكافة أشكاله وقيمه وإسهاماته في الحضارة الإنسانية والمعارف العالمية.
علاوة على المناقشات والحوارات، فقد أطلقنا أول دراسة من نوعها تجرى في المنطقة العربية باستخدام ذكاء السرب الاصطناعي «الذكاء الاصطناعي»، تقنية جديدة أردنا توظيفها لخدمة الفنون والثقافة الإسلامية، وكيفية الاستفادة منها في إحياء وتجديد الفن الإسلامي، وربما مساعدتنا مستقبلاً على تقديم أفكار إبداعية تسهم في إنتاج أعمال فنية مبتكرة. خلصت الدراسة إلى ضرورة رسم سياسات تشجع المبدعين على العمل المشترك من خلال المساحات الفنية، كما لاحظنا من خلال نتائج الدراسة وجود نقص في توفير إطار واضح لتمويل المشاريع المتعلقة بالفنون الإسلامية. وهنا قمنا بإطلاق منحة البردة، حيث سيتم تقديمها لعشرة فنانين من جميع أنحاء العالم، يتم تكليفهم بأعمال تركيبية وعرضها في مناطق محددة داخل الدولة، حتى يتسنى للجمهور التعرف على إبداعات الحضارة الإسلامية، وفي نفس الوقت تشجيع السياحة الثقافية، وتسليط الضوء على هؤلاء الفنانين. لدينا أيضاً جملة أخرى من التوصيات والأفكار من الجلسات والمتحدثين، سيتم أخذها بعين الاعتبار، لتتحول التوصيات إلى مشاريع بالتشاور مع شركائنا في المهرجان.
مهرجان البردة فرصة فريدة للاحتفاء بالمولد النبوي الشريف، والسيرة العطرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم من خلال إظهار جماليات وروعة الثقافة والفنون الإسلامية.