هل حياتنا التي نعيشها هي فعلاً ما نريد؟ هل هي ما يجب عليها أن تكون؟ أهو القدر الذي رسم خطوطها وسيرها بناء على هوى الناس أو هوى العادات والتقاليد التي استقيناها من الوسط، من المحيط الذي نعيش فيه، أم فعلاً ما نحن عليه قد تم بإرادتنا؟
تلك أسئلة نستنتجها من رواية «ألعاب العمر المتقدم» للإسباني «لويس لا نديرو»، حيث في لحظة من مسيرة طويلة في الحياة، وبعد عمر شهد في عقد الأربعينيات محطات متعرجة، محطات في أغلبها ليست على ما يرام، يجد بطل الرواية نفسه أمام لعبة منطقها الكلام والخيال، يحدث ذلك في الرواية عندما يجد «غريغوريو» نفسه مدعواً عبر الهاتف من مندوب مبيعات في قرية نائية عن العاصمة الإسبانية مدريد. مندوب يعيش وحيداً وفي داخله تفاقم كبير لتحجيم الأنا إلى الحد الذي لا يرى قيمة لذاته.
وفي اتصالات متكررة بينهما حيث الاثنان يعملان سوياً في شركة مبيعات للمشروبات وزيت الزيتون يضعنا الكاتب بين رجل منقذ وآخر يبحث عن شخصية رمز، يؤمن ويتعلق بها ومنها يرى العالم، وهنا وجد بطل الرواية «غريغوريو» نفسه في وضع المنقذ، فيقرر الدخول في لعبة مع القروي، متخذاً لنفسه شخصية نموذجية، تجد على الطرف الآخر من الهاتف عبر مكالمة أسبوعية ما يغذيها فيه ويطلق حلماً لطالما تمناه أن يكون شاعراً وروائياً وعالماً وسياسياً مناضلاً، فينسج الحكايات حولها، ثم يتمادى ليقنع الشخصية في الطرف الآخر على أنها مهمة أيضاً وذات شأن ليخرجها من التدمير الذاتي للأنا، فيخلق لها قيمة بإقناع القروي «خيل» بأنه يمكنه تغيير اسمه ووضع الاسم والمهنة التي تمناها، فيطلق عليه اسم «داثيو خيل مونروي» الكيميائي، الذي اقتنع بدوره بهذه الشخصية، ليتقمص الاثنان الشخصيتين إلى درجة الاقتناع التام بها وتصديقها.
وعند اللحظة التي يزور فيها القروي المدينة يفزع «غريغوريو» من أن يكتشف القروي كذبه، فيعمل «غريغوريو» بكل السبل كي يمنع هذا الوضع الذي سيفضح ألاعيبه التي لم يرد أو يقدر أن يتخلى عنها.
في التصاعد الدرامي العالي للرواية يقودنا الكاتب الذي قدم رواية استثنائية عميقة في رموزها التي تشير إلى متاهة الإنسان في واقع يفرض شروطه وقوانينه علينا، غير مكترث بما يمكن أن تمعن صرامته في تحطيم أرواحنا.. يقودنا الكاتب في روايته عبر سرد مدهش إلى داخل نفس بطل الرواية وهي تشرع أبوابها لألاعيب تتقمصها بعمق حد أنها بدت تقارب الواقع، أي أن «غريغوريو» خلق واقعاً جديداً لنفسه، واقعاً أدخل قيمة لذاته وأصبح من الصعب عليه أن يتخلى عنه، لتمضي الرواية بتوهجاتها حتى المصير الأخير لـ«غريغوريو».