لبعض المواقف خذلان القدم، ولبعض الآلام غلبة النفس، وخواء يهدّ الجسد، وحرقة لذلك الجرح الذي شرط الحنجرة فجأة، فلا حديث يُسعف، ولا فزعة تُجدي، فلا تملك حيال حالات الفقد، والوداع الأخير إلا ما خزّنت محاجر الدمع، وما ضمت الجوارح من آهات يتصدع لها الصدر، لأن هناك أناساً لا تتخيل المكان بدونهم، ولا الوقت بِلاهُم، لأنهم كانوا يشغلون المكان بحضورهم البَهيّ، ويطرزون وقتك بنسيج خيرهم، وفِعال يومهم، تخاف إن مررت بزاوية من دروبهم التي يسلكونها ألا تجد ظلهم، الشيخ طحنون عليه شآبيب الرحمة، وغزير الدمع، كان من أولئك الرجال الذين يعنّون على الرأس دوماً، وتتراءى صورهم هنا وهناك، لا تبارح المكان، وتتفقدها العين، ويتردد صدى صوتهم في الأذن، فتفزّ قافزاً بنعم، وملبياً بالخير وعلى الخشم، بمثله ولمثله تصبح الأمور فجائعَ، وله ومن أجله تتداعى الأشياء، وتصبح مصائبَ.
غزارة دمع «العين» حيث همت، ومطرها حين نشج وأعول، كانا يليقان بمشهد ذاك الوداع الجنائزي، لرجل استثنائي، يشبه قلاع العين التي بناها، ودافع عنها، وحرسها، أحب العين من قلبه، فكان قلب العين، وحبة عينها، ترعرع على ترابها، وعشق تفاصيلها مع الجد والأب ومع من حكمها وبعث نهضتها، وعرف مكامن خيرها، فولاه من بعد خليفة أمرها، لذا بكته عينها، وسماؤها في ليلة واحدة كخير ما يودع الرجال الكبار، وخير دعاء لفراق المخلصين من الرجال، ليلتها اختلط الدمع نشيجاً، والمطر وابلاً في وداع الشيخ طحنون، رحمه الله، «عجيد القوم» وقرمها، ومن بقي من رائحة الأولين وزمنهم الجميل الذي عشنا وطراً منه، فكانوا مثل الأهل والأهل، وكانوا العضد والظهر والسند، وكان ملقاهم الخير، والضحكة التي من الخاطر، وذكر وتذاكر ما مر على المكان من أحداث ووقائع وخواطر. اليوم.. حين نودع واحداً من أولئك الرجال الأكابر، نشعر بذلك اليتم الذي يلاقي عظام الصدر، وإن من كان يعرفنا ويعرف الأهل، ويُقدرّ فعل الأولين وصدقهم، و«نخوة زكرهم»، تركنا وحدنا، فنقصت معارفنا، وغاب مرجعنا، ومن كان يسعف ذاكرتنا في ما جرى في غابر الوقت، وسنين الوجع والعطش، وحين كان يتصايح الرجال، ويتسابقون تلبية للنداء، رحل وترك ذاك الفراغ في تجاويف الصدر. 
الشيخ طحنون له الرحمة والمغفرة والثواب الجزيل، كان يعرف العين كلها، ويعرف ساكنتها، ويعرف صغيرها وكبيرها، ومردنا لكل نائبة، ومرجعنا لكل غائبة، اليوم.. الجميع يفتقده، ويقتفي أثر ظله، وموطئ قدمه، مكانه خالٍ إلا من القلب والذاكرة، وما سطّرت تلك المدينة في حبه.
الشيخ طحنون حكاية رجل في مسيرة دولة، وسيرة رجل وطني، رفقة رؤساء الدولة، رفيق زايد الخير في كبر الأحلام، وتثبيت الأركان، وعضد خليفة الخلف، خالاً، ومآلاً لكل ما سلف، وسنداً لأبي خالد القائد، ومرجعاً بالمشورة وصدق القول، وهو في كل المواقف رجل من شرف.
كل العزاء، حيث لا ينبغي العزاء، لأبنائه الكرام، ولكريماته الفاضلات، أحفاداً وحفيدات، ولعموم آل نهيان تاج الرأس، وفخر الدار، ولمدينته العين التي أحب، والتي احترق دمعها بالأمس جارحاً مجرى سيل الدمع.