روما ما زالت تبحث عن زمنها الجميل، زمنها القديم في حاضرها المعاصر، ما يفضي إلى شوارع تبوح بالنسيان، وهي على مرمى من صولجان يضيء بالعنفوان، عيونها ساحرة، وقلبها ينبض بالحياة والسكون، يراودها شيء ما من الماضي، فلا تنام فيها التماثيل البيضاء، ولا القلاع المتشكلة برونق الشوق، مدينة تحدق في كل الزوايا الدافئة، نوافيرها يستميت فيها التاريخ، وينفطر قلبها بآيات من الجمال شوقاً، كما لو عادت شهيتها للأحلام، تستعير شيئاً من الحياة، وشيئاً من الزمن، وشيئاً من المواعيد التي لا تنتهي.
ما زال حراسها القدماء من الجنود ينهضون من جوف التاريخ، ورتلاً من السيارات العسكرية القديمة تستعرض ذاكرتها كل صباح يتجدد، وتضيف على معالمها الهيبة، تقف مدافعها على أبواب المدن، تحضر حول القلاع، شاهدة على زمن مضى، المارة لا تعنيهم تفاصيل الحياة من قبل، هم في استمتاع يكتظ بالغياب الزمني، زحمة الوجوه تحضر وتعيد تفاصيلها، بأفواج تنتشي بالأحلام، وبالأسواق العريقة، ومطاعمها المتوارثة، كيف لا وروما تصدر ألواناً وأذواقاً من الطعام للعالم، كيف لا وروما فطرتها الحياة على الموضة والبساتين والحدائق لتعيد قصصها للحياة.
تركنا القطار يعبر من روما إلى نابولي، يظهر آفاقاً من الحياة، يتهادى ما بين المروج الخضراء، كان الاختيار غرفة يمنع فيها الكلام، تغلق الهواتف، وتبوح بالصمت إلى حين الوصول، لتخرج من الصمت إلى ضوضاء وضجيج المحطة، هنا يلتف حولها الغرباء، هنا الوجود الحقيقي الذي يصنع الحياة، الكل ينتمي لشيء ما يصنعه من جديد.
لم نمكث كثيراً في مدينة نابولي ومكانها السياحي اللافت، سلبتنا مدينة سورينتو التي تفضي بأشجار الحمضيات، هي الأجمل من حيث التقاء الساحل بالجبال المسكونة بالبيوت والطرقات الملتوية حولها المزارع التي تفوح برائحة الليمون والياسمين والبرتقال، ومنها يمد الساحل أياديه طريقاً مائياً تزخرفه السفن الراحلة إلى فضاءات الجزر والمدن المأثورة بالحياة والسياحة، كابري إحداها، فضلنا انطلاقتنا من نابولي إليها لقرب المسافة، فتهادت السفينة بصمت لولا صياح طفلة رضيعة ملائكية الصوت.
كابري جزيرة تنفرد بقصة من الخيال تسلب الزائر بطبيعتها الخلابة، تستقبل زائريها بود يتسع بهول الجبال وهي تنسج الأشجار نسيجها حول الصخور والبيوت والشوارع المتدرجة إلى فضائها الرحب.
ما زال هناك ما يقال حول هذه المدن الثائرة منذ زمن بعيد، وجوه لها عدة مشرقة بالحضارة والجمال، وآية فيها الطبيعة المتشكلة منذ أزمان بعيدة لا تتشابه ومدن أوروبية خلت، روما لها اكتشاف حضورها المختلف، فكلما أيقنت فيها الزمن المتسارع، اكتشفت فيها ما يتجدد من روح الحياة، ممزوجة هي بالقيم والنضج والحكمة والحضارة.