سعدت كثيراً باستضافة العراق دورةَ «كأس الخليج» الحالية، ليس من منظور كروي ولكن لدلالة الحدث سياسياً، تماماً كما كان كأس العالم لكرة القدم في الدوحة مناسبةً لإعادة اكتشاف العرب للمشاعر التي تجمعهم حول تشجيع الفِرق العربية المشاركة فيه. أما تنظيم العراق لكأس الخليج فمثَّل بالنسبة لي خطوةً متقدمةً في عملية استعادة العراق لمحيطه الخليجي خاصة والعربي عامة. ولا تخفى أهمية العراق بالنسبة لأسرتيه الخليجية والعربية، غير أن علاقاته بهما تعرضت لتقلصات حادة نجم بعضها من داخله وبعضها الآخر من خارجه. وكان أول المصادر التي عصفت بعلاقات العراق مع جيرانه الخليجيين خاصةً والعرب عامةً هو غزو الكويت في أغسطس 1990 والذي مثّل ضربةً قاصمةً للأمن القومي العربي، أولاً لأن التهديد جاء من داخل الأسرة العربية، وبالتالي قوّض مفهومَ الأمن الجماعي العربي، وثانياً (وهي نتيجة مترتبة على أولاً) لأن موازين القوى القائمة آنذاك بين العراق وجيرانه العرب جعلت إنهاء الغزو مستحيلاً دون الاستعانة بقوات أجنبية. ولقد ظل تجاوز الصدع الذي حدث في علاقة العراق بالكويت خاصة وشقيقاته من الدول الخليجية والعربية عامةً عملية مستعصية، حتى أمكن بعد 12 سنة من الغزو تحقيق مصالحة كويتية عراقية في قمة بيروت العربية 2002. وهنا دخل تأثير العوامل الخارجية غير العربية التي فرضت استمرار التأزم في وضع العراق خليجياً وعربياً. ففي العام التالي مباشرةً لإنجاز المصالحة الكويتية العراقية وقع الغزو الأميركي للعراق، والذي كانت له آثاره الفادحةُ على العراق ومحيطيه الخليجي والعربي معاً، إذ أدت سياسات الاحتلال الأميركي إلى تفكيك الدولة والمجتمع في العراق، وإلى إشعال الاحتقان الطائفي وتفاقمه، ثم أفضت هذه الخلخلة إلى مناخ من عدم الاستقرار مثّل بيئة مناسبة لتعاظم النفوذ الإقليمي الذي كان من شأنه إبعاد العراق عن محيطه العربي.
ومرت بالفعل سنوات افتقدت فيها الأسرةُ العربيةُ عامةً وأعضاؤها من الخليجيين خاصةً الحضورَ العراقيَّ في الشأن العربي، لا سيما خلال السنوات التي استغل الإرهاب فيها ظروف العراق آنذاك ليُقِيم أولَ دولة له في تاريخ المنطقة المعاصر على جزء عزيز ومهم من أرض العراق سرعان ما امتدت إلى الإقليم السوري، وبدا أن المنطقة مرشحة لأسوأ السيناريوهات المستقبلية، خاصةً وأن فصائل الإرهاب حاولت الاستفادة من الزخم الذي نجم عن تأسيس دولتها في العراق لتكرار المحاولة في بلدان عربية أخرى. 

ومع النجاح في إسقاط دولة الإرهاب في أواخر عام 2017، وبدء تعافي العراق من محنته، بدأت الأصوات المخلصة في داخل العراق وشقيقاته في الخليج وعلى امتداد العالم العربي، تسعى لاستعادة العراق لمحيطه الخليجي والعربي. وقد تحقق قدرٌ ملحوظٌ من النجاح في هذا الصدد، وبدأت تتبلور قوى سياسيةٌ في العراق حريصة على مد الجسور وتأمينها مع هذا المحيط. ومع نجاح كهذا بدأ العراقُ يستعيد دورَه العربي تدريجياً، مما تمثَّل تحديداً في لعب دور الجسر بين ضفتي الخليج، حيث تمكنت بغداد من رعاية الحوار بين الرياض وطهران، وهو حوار من شأن نجاحه أن يعزز توجه التهدئة ونهج تصفير المشاكل الذي اضطلعت دولة الإمارات بدور رئيسي فيه، ناهيك عن انعقاد مؤتمر بغداد في الأول من أغسطس 2021، والذي حضرته إيران وعدد من الدول العربية الفاعلة كمؤشر على إمكانية تحقيق مزيد من خطوات إنهاء التوتر في المنطقة. ثم عُقدت الدورةُ الثانية من المؤتمر في ديسمبر الماضي.
غير أن الخطوات السابقة كافة اتسمت بالطابع الرسمي، أما «كأس الخليج» فبُعدها الأساسي شعبيٌ، ومَن يشاهد فرحةَ العراقيين بتنظيم فعالياتها على أرضهم لابد أن يتفاءل باكتمال عملية عودة العراق إلى محيطيه الخليجي والعربي، وهي بالتأكيد عودة حميدة لطرفيها ومن شأنها أن تعزز القدرة على مواجهة التحديات الجسيمة التي تحيط بِنَا.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة