كنتُ أقرأ في كتاب الدارس الفرنسي دومينيك أورفوا عن تاريخ الفكر العربي والإسلامي، والذي تُرجم مؤخراً إلى اللغة العربية، فلاحظت التغييرات في الرؤية لدى الدارسين الغربيين المحدَثين إلى ما كان يُسمَّى «العصور الوسطى الإسلامية». فقد نبَّهنا الدارس الألماني توماس باور إلى أنّ استخدام تسمية «العصور الوسطى» لدى المستشرقين الأوروبيين، إنما كان تقليداً لتسمية عصورهم الوسطى والتي ناهزت تلك الحقبة في تاريخنا بفروقٍ بسيطة، بين القرنين الخامس والخامس عشر للميلاد.

وقد زحزحت مدرسةُ الحوليات الفرنسية رؤيةَ «العصور الوسطى» الأوروبية، وصارت تعتبرها حقبةَ نهوضٍ أسست لما صار يُعرف بزمن النهضة، فلماذا ينبغي أن تبقى عصورٌ وسطى (مظلمة) في التاريخ الإسلامي، وهي الحقبة التي شهدت أزهى أزمنة النهوض والازدهار في التاريخ الإنساني كله؟!  

  ما قاله دومينيك أورفوا، كما قاله توماس باور، أنه لم توجد في الإسلام عصور وسطى، لكنه توصل إلى النتائج نفسها عندما لاحظ أنّ الكلاسيكيات كلها ورثها المسلمون بانفتاح ومنذ بدايات الفتوح وإقامة الدولة. وهو يلاحظ أنه من الطريف اعتبار مؤرخي العلوم الغربيين الحضارة الإسلامية شديدةَ التقدم في العلوم البحتة والتطبيقية، والتي أفادت منها أوروبا في زمن نهضتها، ثم يذهبون إلى حصول انحطاط في الفكر الديني والأدبي بعد القرن الثاني عشر الميلادي استمرّ إلى أواسط القرن التاسع عشر!

هم يذهبون إلى أنه بعد القرن الخامس الهجري حصل انحطاط في الحضارة، لأن المحافظين سيطروا عليها وتخلَّوا عن العناصر اليونانية العقلانية والتنويرية، فاتجهت إلى السقوط والاندثار. والطريف أنهم يقولون إنّ التقدم في العلوم البحتة والتطبيقية والهندسة والفلك والطب استمر وتعاظم فأفادت منه أوروبا في النهوض. لكن كيف يحدث انحطاط في الفكر ويبقى النهوض في العلوم؟ بالطبع هذا ما لا يمكن تعقله!  

  أورفوا الذي كان قد كتب عن «المفكرين الأحرار في الإسلام»، يرى أن الثقافة الإسلامية كانت تغصُّ بالتيارات الدينية والفكرية والأدبية المختلفة. وكانت فيها بالطبع تيارات متشددة تجاه الثقافات الأُخرى، شأن كل الثقافات والحضارات الكبرى. لكنها كانت في معظمها منفتحة وتقول بالتثاقف، وأسّست كلّها علومَها على المنطق الأرسطي، حتى في أصول الفقه وعلم الكلام. لكن، كما فعلوا في العلوم والفلك والرياضيات والهندسة، حيث أفاد المسلمون أيضاً من الإغريق، فإنه جرى التجاوز باتجاه صنع المتقدم والمضيء في تلك الحضارة الكبرى وفي شتى المجالات.  

  أورفوا يعتبر أن تلك الثقة الجلية في أعمال مفكري زمن النهضة أواخر القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، تشير إلى ذلك التاريخ العريق. فهؤلاء المفكرون يناقشون ويقبلون ويعارضون ولا يهابون ذلك «السيل» الذي يرون أنه ينبغي التلاؤم معه مع عدم الغرق فيه. إنهم أصحاب حضارةٍ عريقةٍ، وقد تكون بعض أفكارهم ردَّ فعلٍ على الهيمنة الغربية، لكنهم ظلوا شديدي الإيمان بإمكان النهوض، والاحتفاظ بالشخصية الثقافية المستقلة. وأورفوا يرى أنّ ذلك كان من آثار الثقة المستمرة بذلك الإسلام الحضاري العريق.

*أستاذ الدراسات الإسلامية - جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية