لقد وجدنا الكتاب العزيز يفتح أبواب العلم على مصاريعه، سواء من حيث الدعوة إليه والترغيب فيه، أو من حيث توسيع الرؤية إليه في شمولية واستغراق عجيبين، أو من حيث مستوياته الظاهرة والباطنة، أو من حيث آفاقه المستقبلية التي لا حدود لها، أو من حيث المنزلة التي بوأها للعلماء من أهل المعرفة بالله، أو من حيث الترغيب في استعمال أدوات المعرفة المختلفة لتجاوز حالة الجهل والقصور التي خلق الإنسان عليها (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)، وغير ذلك من التلوينات القرآنية المبدعة والمبتدعة في تناول العلم.

ونحن مدينون لهذا التصور القرآني للعلم لكل ما أنتجه المسلمون من صنوف المعرفة العقلية والنقلية على السواء. فقد استطاع المسلمون، في لقائهم بـ «الشريعة الأولى» قبل أن يداخلها التغيير، أن يؤسسواً صروحاً معرفية ما تزال تفعل تأثيرها. فإن كتابا بدأ بـ«اقرأ»، وانتهى بـ «التقوى»، وجعل القراءة طريق التقوى، ولم يضع لها حدوداً إلا حدود النزاهة الفكرية، كان المحفز على بناء حضارة العلم والإيمان.

لكن، والمسلمون يدخلون في ضرب من الانكماش الفكري، بدأوا يضعون الحدود الفاصلة بين ما سمّوه «العلوم المحمودة» و«العلوم المذمومة»، فأصبحت العلوم الشرعية وما يُقرّب إليها من علوم الآلة، هي العلوم التي يُطالب طالبُ العلم بالإقبال عليها، وأصبحت العلوم الفلسفية علوماً محرمة يصبح الاقتراب منها دليلاً على الخروج من ربقة الدين، ومن هنا ضُيّق على المنطق، لولا أنه وجد له مناصرون، فانتظم في سلك التعليم الشرعي.

وضيق على العلوم العقلية، لولا أن علم الفلك وجد له منافحون، فانتظم أيضاً في نفس السّلك، ولكن الفلسفة منذ القرن السّادس الهجري على الأقل وُجد لها معارضون أشاوس، حتى إن ابن الخطيب حذّر ابنه من الفلسفة لأنها لا تورث «إلا تشكيكاً ورأياً ركيكاً»، بل إن الباجي قبله حذر ابنيه من «قراءة شيء من المنطق والفلسفة» لأن ذلك عنده «مبني على الكفر والإلحاد والبعد عن الشريعة»، وهكذا انتظمت في حياة المسلمين مناطق علمية محرّمة يمنع الاقتراب منها، فكانت نتائج هذا الفعل وخيمة على العقل المسلم وعلى آثاره التي ينتجها، وأصبح كل عالِمٍ يرى أن علمه الشرعي هو أفضل العلم والأحق بالاعتناء والاحتفال، وتم ضرب من الإجماع على الانصراف عن علوم الفلسفة إلا النّادر من العلماء، منهم أبو علي اليوسي صاحب كتاب «القانون في أحكام العلم والعالم وأحكام المتعلم»، الذي برهن في كتابه أن العلم لا يحرم على الإطلاق، وأفرد لعلوم الفلسفة منزلة خاصة في كتابه.

إن علوم الفلسفة هي التي أسهمت في تقدم العلوم، وجميع الفلاسفة الكبار كانوا في العلم فرساناً، فأفلاطون كان رياضياً، وأرسطو كان بيولوجياً، وديكارت كان رياضياً ومبدعاً فيها، وفلسفة كانط تقوم على فيزياء نيوتن، وكذلك كان فلاسفة الإسلام وعلماؤهم الكبار، ولذلك عندما شرع المسلمون في تحريم الفلسفة بدأوا يخرجون من سكّة العلم النظري التي كانوا من مُقعّديها ومؤسسيها، وأصبح اهتمامهم يكثر بهوامش العلم وملحه، وتركوا صُلبه لمفكري الغرب الذين استلموا المشعل من المسلمين الروّاد، وانطلقوا يرتادون آفاقه، ويُحقّقون فيها النّجاحات المتتابعة، حتى أصبحت الأرض تتكلم لغتهم، وتستظل بظلال أشجار معارفهم الوارفة.

*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.