الأربعاء 15 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الجليلات..

الجليلات..
7 مارس 2019 02:34

سجلت المرأة المسلمة حضورها داخل التيار الصوفي أكثر من حضورها داخل الفقه، لأن الأول كان أكثر تقبلاً لها في حين استبعدها علماء الفقه، وحجتهم في ذلك، أن مكانها الطبيعي هو بيتها. ولذلك كثر عدد الوليّات الصالحات العارفات بالله تعالى، فشكلن إضافة جليلة للعلوم الدينية وللفكر الصوفي.

الملاحظ، أن كتب التراجم والتاريخ تجاهلت النساء المتصوّفات، وسلطت الضوء على رجالات التصوف، فتركتهن يتوارين وراء حجاب النسيان. وحسب يوسف زيدان، أصبح التصوف بعد مقتل الحلاج شأناً ذكورياً وتم تغييب الحضور الأنثوي فيه، وحتى وإن تم ذكرهن، يتم تناول جانب الزهد والعبادة عندهن، رغم أن العديد منهن كن عالمات ومفكرات وأديبات، وأثّرن أيضا في محيطهن السياسي والاجتماعي.
لكن الجميل في الأمر أن الكثير من كبار المتصوفة تتلمذوا على يد نساء صوفيّات وذكروهن في مؤلفاتهم ورسائلهم بكل إجلال وتقدير معترفين بفضلهن عليهم، وبمكانتهن العلمية والمعرفية.
فمن هن هؤلاء الصوفيات الجليلات اللواتي تتلمذ على أيديهن كبار رجال التصوف؟ ومن هم تلامذتهن؟

رابعة العلامة
تعد رابعة العدوية علامة من العلامات المنيرة في التاريخ الصوفي الإسلامي، ومن أشهر العارفات بالله تعالى، وقد لُقّبت بـ«شهيدة العشق الإلهي»، ومساهمتها جليلة في صياغة التصوف الإسلامي، وتمثل ذلك في تأسيسها لمذهب صوفي، هو مذهب الحب الإلهي، وحسب يوسف زيدان، فإن: «المحبة آخر درجة من درجات العلم وأول طور من أطوار المعرفة، والعلم بالظاهر والمعرفة بالباطن، والفاصل بينهما هو الحب»، ففتحت بذلك باباً جديداً في العبادة يتمثل في الحب الذي لا تقيده رغبة سوى حب الله وحده، فهو الحبيب الأوحد الذي عشقته، وعشقها له ليس طمعاً في جنة أو خوفاً من نار، وإنما هو حب خالص، ابتغاء لوجهه تعالى ومما قالته في الموضوع:
أُحبُّك حبّين حبّ الهوى/‏‏ وحبّاً لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الـذي هو حبُّ الهـوى/‏‏ فـشغلي بحبك عمّن سواكا
ومن أقوالها: «محب الله لا يسكن أنينه وحنينه حتى يسكن مع محبوبه».
وقد قال عنها محيي الدين بن عربي: «رابعة العدوية المشهورة التي أربت على الرجال حالاً ومقاماً»، ووصفها ابن خلكان قائلا: «كانت رابعة العدوية من أعيان عصرها، وإخبارها في الصلاح والعبادة والعلم»، أما فريد الدين العطار فقد وصفها بكونها: «ذات الخدر الخاص، المستورة بصورة الإخلاص، المتقدة بنار العشق والاشتياق، المتحرقة إلى الاحترام، المقبولة عند الرجال، كأنها مريم ثانية، صافية صفية».
ونظراً لولايتها وصلاحها وعلمها، كان مجلسها مقصداً للمتصوفة والعلماء الكبار، للتأدب على يديها وأخذ طريقتها، ومنهم مالك بن دينار، والحسن البصري وشقيق البلخي وسفيان الثوري، ونُقل بأن هذا الأخير نتيجة ما عرف عنها من الزهد والعلم، كان يجلس بين يديها ويقول لها: علمينا مما أفادك الله من طرائف الحكمة، وكانت تقول له: نعم الرجل أنت لولا أنك تحب الدنيا، وكان يعترف ويسلم لقولها.
ويعد الحسن البصري (21هـ ـ 110هـ) من أعلم أهل زمانه، وقال عنه قتادة: «وما جالست رجلاً فقيها إلا رأيت فضل الحسن عليه»، ورغم علو كعبه في علوم الدين، فقد كان يقصد مجلسها، وما ورد في النص التالي يؤكد ذلك: «هاهو الحسن البصري يقول لصحبه مدللاً على شخص السيدة رابعة: هيّا بنا إلى المؤدبة.. وفي مجلسها تتداول مع أهل النخبة من الحضور، فنرى من طرحهم جميعاً لمفاهيمهم الصوفية علو تجربتها على تجربتهم، وبالتالي يصبح نصها هدفاً لمجاهدة رجل وتحققه من أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار».

شيْخات ابن عربي
كما هو معروف فقد أعلى الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي من مكانة المرأة، واعتبر بأن للمؤنث الأفضلية على المذكر، ويبدو ذلك واضحا في «رسالة الذي لا يعول عليه» وقد قال فيها «وكل مكان لا يؤنث، لا يعول عليه»، وقال أيضا في باب الرفع من قيمة المرأة: «من عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن بل من كمال العارف حبهن فإنه ميراث نبوي وحب إلهي»، لذلك لا يبدو غريباً تتلمذه على أيدي عدة نساء متصوفات، بصمن حياته وأرشدنه لمسالك النور والتدرج في مراقي الروحانية المؤدية للوصول، حيث ألهمنه ليصبح شيخ الطريقة الأكبرية، لكن إحداهن كان لها أكبر الأثر عليه، وهي العارفة بالله تعالى، فاطنة بنت المثني القرطبية، فمن هي هذه الصوفية، وما أثرها على ابن عربي؟
تدرجت هذه الشيخة الجليلة في مسالك الترقي حتى وصلت إلى مرتبة عالية في العلم بالدين والزهد والورع، فأصبحت مقصد العامة والخاصة، للتزود مما حباها الله من علم وحب إلهي، وكانت أولى شيخات ابن عربي، وأكثرهن تأثيرا عليه، وما قاله عنها: «أنها كانت رحمة لهذا العالم» وقال أيضا: «لم أر في الرجال والنساء أشد ورعاً ولا اجتهاداً منها»، معترفاً بولايتها الروحية عليه، وقد تحدث عنها بإسهاب في كتاب الفتوحات المكية بقوله: «وخدمت أنا بنفسي امرأة من المحبات العارفات بإشبيلية يقال لها فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي خدمتها سنين وهي تزيد في وقت خدمتي إياها.. وكان لها حال مع الله وكانت تؤثرني على كل من يخدمها من أمثالي وتقول ما رأيت مثل فلان إذا دخل عليّ دخل بكله لا يترك منه خارجاً عني شيئاً وإذا خرج من عندي خرج بكله لا يترك عندي منه شيئا».
ولمكانتها في نفسه كان يناديها أمي، كما ورد في قوله وهو يتحدث عن كراماتها: «فأقول لها يا أمي القول قولك قالت إني والله متعجبة لقد أعطاني حبيبي فاتحة الكتاب تخدمني فوالله ما شغلتني عنه فذلك اليوم عرفت مقام هذه المرأة لما قالت إن فاتحة الكتاب تخدمها»، وهي أيضاً اعتبرته ابنها، فكانت تقول له: «أنا أمك الإلهية، ونور أمك الترابية. وإذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها: يا نور، هذا ولدي، وهو أبوك، فبرّيه ولا تعقّية».
كما نقل ابن عربي عنها بعض أقوالها ومنها: «سمعتها تقول عجبت لمن يقول إنه يحب الله ولا يفرح به وهو مشهوده عينه إليه ناظرة في كل عين لا يغيب عنه طرفة عين فهؤلاء البكاؤون كيف يدعون محبته ويبكون أما يستحيون إذا كان قربه مضاعفا من قرب المتقربين إليه والمحب أعظم الناس قربة إليه فهو مشهوده فعلى من يبكي إن هذه لأعجوبة». وما يحكيه عنها ابن عربي أيضا، أنها: «كانت تضرب بالدف وتفرح فكنت أقول لها في ذلك، فتقول لي إني أفرح به، حيث اعتنى بي، وجعلني من أوليائه واصطنعني لنفسه، ومن أنا حتى يختارني هذا السيد على أبناء جنسي وعزة صاحبي لقد يغار عليّ غيرة ما أصفها ما ألتفت إلى شيء باعتماد عليه عن غفلة إلا أصابني ببلاء في ذلك الذي التفت إليه، ثم أرتني عجائب من ذلك».
أما الشيخة الثانية التي تتلمذ على يديها ابن عربي، فهي شمس، أم الفقراء، وقد قال عنها: «لم أرَ أحدًا من الرجال كان يقدر على ما تقدر عليه من العبادة، وهي كثيرة الوصال في الصوم، على كبر سنها، أدركتها وهي في عشر الثمانين سنة، كانت تتكلم على الخواطر، صحيحة المكاشفة، وأيضا تتلمذ على يدي صوفيات أخريات كزينب القلعية والتي تعلم على يديها بإشبيلية وبمكة، وأم الزهراء، وكلهن أسهب في ذكرهن وذكر صلاحهن وكراماتهن وأفضالهن عليه في تعليمه قواعد التصوف.

الأستاذة المؤدبة
ولدت العارفة بالله تعالى فاطمة النيسابورية في خراسان وتوفيت سنة 223هـ بمكة، ومعروف عنها أنها هجرت حياة الترف والثروة، لتسلك طريق التصوف والزهد وطلب العلم، وتعد رابعة العدوية من الجيل الأول للمتصوفات، وفاطنة النيسابورية من الجيل الثاني، ومن أقوالها: «من لم يكن الله مِنْهُ على بَال فَإِنَّهُ يتخطى فِي كل ميدان وَيتَكَلَّم بِكُل لِسَان، وَمن كَانَ الله مِنْهُ على بَال أخرسه إِلَّا عَن الصدق وألزمه الحيَاء وَالإِخلَاص».
ويعرف عن فاطمة النيسابورية أنها تبحرت في العلوم الذوقية والدينية حتى أصبحت قبلة للمتصوفين الرجال الذين قصدوها وجاوروها للنهل من علمها ومعارفها القلبية، ومن أشهر تلامذتها ذو النون المصري، وهو من أعلام التصوف المصريين، ومن مؤلفاته كتاب «حل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأقلام». ويذكر القشيري في رسالته أن ذو النون المصري أول من عرّف التوحيد بالمعنى الصوفي وأنه أول من وضع تعريفات للوجد والسماع والمقامات والأحوال، وقد درس على يد علماء كثيرين، ومنهم فاطمة النيسابورية التي شهد لها بسعة العلم بقوله: «ما رأيت أحدًا أجَلَّ منها، كانت تتكلم فى فهم القرآن»، وقد كان يتردد عليها لسؤالها في القضايا الفقهية التي تشكل عليه، وقال لها ذو النون ذات مرة: عظيني، وقد اجتمعا ببيت المقدس، قالت له: «الزم الصدق وجاهد نفسك في أفعالك»، ولما سُئل عنها يوما اعترف بمكانتها الرفيعة كمتصوفة وعالمة وكمعلمة له، فقال: «ولية من أولياء الله وهي أستاذتي»، ومن المتصوفة الكبار الذين جالسوا فاطمة النيسابورية كذلك، أبو يزيد البسطامي الخرساني الذي قال بوحدة الوجود، ومن أقواله المشهورة: «النفس تنظر إلي الدنيا والروح تنظر إلي العقبي، والمعرفة تنظر إلي المولى، فمن غلبت نفسه عليه فهو من الهالكين، ومن غلبت روحه عليه فهو من المجتهدين، ومن غلبت معرفته عليه فهو من المتقين»، وقد أثنى على فاطمة النيسابورية بقوله: «مَا رَأَيْت فِي عمري إِلَّا رجلا وَامْرَأَة فالمرأة كَانَت فَاطِمَة النيسابورية مَا أخْبرتهَا عَن مقَام من المقامات إِلَّا وَكَانَ الخَبَر لَهَا عيَانًا».
ومن الذين تأدبوا على يدي فاطمة النيسابورية أيضاً الصوفي المعروف أحمد بن خضرويه البلْخي، وقد كان متزوجا بها.

النموذج المضيء
هي عائشة الباعونية الشيخة الصالحة العالمة من بيت علم وفقه، أبوها القاضي يوسف بن أحمد بن ناصر بن خليفة بن فرج بن عبدالله بن يحيى بن عبد الرحمن الدمشقي، وكانت وفاتها سنة 922هـ. مشايخها هم كبار العلماء والمتصوفة في زمانها بمصر والشام، تتلمذت على أيديهم، وتبحرت في العلوم الدينية والفكر الصوفي، فأجيزت في الإفتاء والتدريس، فأصبحت عالمة كبيرة يقصدها العلماء والمتصوفة للتتلمذ على يديها، وألفت مجموعة من المصنفات في الشعر والنثر ومنها: «در الفائض في بحر المعجزات» و»الإشارات الخفية في المنازل العلية»، و«الفتح الحقي من منح التلقي»، و«المعجزات والخصائص النبوية»، وغير ذلك من المؤلفات، حيث فاقت مؤلفاتها ثلاثين كتاباً، ضاع معظمها ولم يصلنا منها إلا القليل، ونتيجة هذا الثراء العلمي والمعرفي الذي عرفت به، كالفقه والآداب والفكر الصوفي، اعتبرها المؤرخون من أشهر نساء عصرها، وصنفوها كنموذج مضيء في تاريخ الحضارة الإسلامية. ومن علامات نبوغها قولها: «أهّلني الحقُّ لقراءة كتابه العزيز، ومَنّ عليّ بحفظه على التمام ولي من العمر ثمانية أعوام». وقد تتلمذ على يدي عائشة الباعونية الكثير من العلماء الكبار، وطلبة العلم، حيث قصدوها من كل حدب وصوب، ووصف الحنبلي لها يؤكد مكانتها العظيمة بين علماء زمانها: «الشيخة الصالحة الأديبة العالمة، أحد أفراد الدهور ونوادر الزمان فضلاً وأدباً وعلماً وشعراً وديانةً وصيانةً. وهي أعلم نساء القرن العاشر الهجري. بل قالوا: ربما لم يقم في تاريخ الإسلام بعد كبار الصحابيات والتابعيات مَن يشبهها في العلم والفضل والإجادة والتأليف، وكانت فاضلة الزمان، وحليفة الأدب في كل مكان».
وللباعونية الكثير من الأشعار في مدح الرسول الأمين وفي التصوف، حيث يرى الدارسون بوجود نقاط التقاء كثيرة بينها وبين شعراء الصوفية الكبار.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©