السبت 18 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المترجمون: لسنا خَوَنة!

المترجمون: لسنا خَوَنة!
18 ابريل 2019 02:50

روعة يونس

منذ أطلق الإيطاليون مقولتهم حول الترجمة، ووصفها بـ«الخيانة» رغم تعدد أبعاد المفردة التي جردّها البعض من المثلبة، وقلبوها إلى فعل جميل، ظلّ الجدل قائماً حول كون الترجمة خيانة للنص الأصلي، والتي يعمل بعض النقاد ـ عادة ـ على تأكيدها، وبخس جهود المترجمين.
حين التقى الأديب باولو كويلو في دبي عام 2005 بعض الصحفيين، دافع عن المترجمين ووصفهم بـ«الأبطال جنود الثقافة» لأنهم يقتحمون الحدود لنقل المعرفة، خاصة إذا تحلى المترجم بالحب.. حب هذا الصنف الأدبي الذي تتم ترجمته. وأيضاً الإحساس العالي بالكاتب، فضلاً عن تمتع المترجم بثقافة تتصل بالتاريخ والجغرافية التي تدور فيها أحداث الكتاب.

علم قائم
ليس كويلو وحده من دافع عن المترجمين رافضاً مقولة «الترجمة خيانة للنص الأصلي» فها هم بعض «أهل الترجمة» في دمشق، يدحضون هذه المقولة، ويعيدون الجدل في شأنها، وكل منهم ساق قناعاته لإثبات وجهة نظره في أن الترجمة ليست خيانة.
ترى هناء جبر- مديرة معهد لغات، أن الترجمة «هي الفعل الجاد المساهم في التنمية، وفي مخاطبة العقول، وفتح الأبواب نحو جهات المعرفة والاطلاع على ثقافات وحيوات الناس في العالم. وعلى طرق التفكير والإحساس والمشاعر وكيفية التعبير عنها».
وتشير إلى أن افتتاحها معهد لغات انطلق من سبب جوهري يتعلق بالترجمة نفسها لا بعائداتها المادية: «تشكّلت لدي بمرور الزمن قناعة بأن الترجمة هي «عِلمٌ» قائم بحد ذاته يضاف إلى باقي العلوم. لذا لا نمارسها في المعاهد كعمل ربحي أو تجاري! بل نعلّم اللغات وكيفية الترجمة السليمة الوفية. فاللغة لا تعترف بالحدود وتتجاوزها للانطلاق نحو فضاءات رحبة. والترجمة بدورها لا تعترف بسجن اللغة الواحدة لها. لذا ترفرف بحرية كونها ليست أسيرة لغة واحدة. مما يُنصفها كعلمٍ معرفي وليس نقلاً جامداً».

طبيب وفيٌ
الترجمة بذلك هي علم كتابة وإعادة صياغة لذات المعنى بلغة ثانية، وبين اللغة الأولى والثانية يتحرك المترجم كوسيط بينهما، لا يكتفي بالنقل، بل يتعداه إلى عملية تخليق وولادة!
يقول عمر قريشي- مترجم لغة إنجليزية: «من باب الوفاء للنص الأصلي لا يُفترض بالمترجم الالتزام الحرفي الجاف بالترجمة! بل الالتزام بالكاتب الأصلي، تقمّص رأيه ورؤيته ورغباته ورسائله وفكره. وكون المترجم يحيط بكل تلك الجوانب، فهذا يعني دخوله مرحلة كونه طبيباً».
يسترسل القريشي موضحاً: «الطبيب الذي يُخرج الروح من الروح (الجنين من رحم أمه) يقرأ حالة رحم الوالدة ليفهم كيفية إجراء عملية الولادة. فإما يكون وفياً وحريصاً على إنجاز ولادة سليمة، ليكبر ذلك الوليد كما تريد له منجبته أو ينشأ مشوّهاً أو يموت بين يديه. هكذا حال المترجم فقراءة فضاء النص تشبه السنوجرافيا على المسرح، بل هي فضاء المسرح بكل ما يدور ضمنه، لأن الترجمة حب وفهم وذكاء فإنجاز. بذلك يكون المترجم هو الطبيب/‏‏‏ المُخرج لتلك الحالة الأدبية أو الثقافية التي تظهر إلى النور».

فلسفة الترجمة
نحب ونفهم ونفكر ونحرّض ونؤول ونبدع ونترجم، ثم نُتهم والترجمة بالخيانة؟ بهذا السؤال توجز رأيها منصورة عبدالعزيز- مدرّبة فلسفة الترجمة في المعهد العالي للترجمة. وتذهب في توصيف مكانة المترجم بأكثر من طبيب! وتفسّر قائلة: «لا يمكن للمترجم أن يقوم بترجمة كتاب أو حتى نص شعري، إن لم يكن في الأصل محباً للشعر، لا أقول «شاعراً» بل متذوقاً له، لأن الحب يدفعه دفعاً إلى الترجمة. فيحاول بدايةً مع قراءة النص، التأمل فيه لفهمه جيداً، مع تحريض لذاكرته الثقافية ومخزونه المعرفي العام، لأنهما يفيدانه في عملية التأويل، أي تفسير ما يريد الكاتب أو الشاعر قوله والتعبير عنه. كي يبدع المترجم بعد مروره بهذه المراحل وهضمها، ويقدّم لنا ترجمة أراد الكاتب أن تكون مرآة عاكسة له بكلِه».
وتسترسل عبدالعزيز لتصل إلى تحديد مقدرات وامتيازات المترجم «عملية فهم إحساس وروح كاتب النص الأصلي، تليها عملية نقل وإفهام وإيصال إلى القارئ. فإذا كان لدينا إنسان يتمتع بالفهم والتفكير والتأويل والإبداع والترجمة، وترجم لمثيلٍ له في مقدرات الفهم والفكر والكتابة والإبداع والإحساس. فالمترجم هنا إذاً يمتلك الوفاء للترجمة وفلسفتها. ولديه امتيازات ومقدرات عن شخصين، هو والكاتب الأصل».

افتراء الفكر المتعالي
يذهب البعض في اعتقاده إلى أن مقولة الترجمة ليست ذات منشأ إيطالي، بل تمّ تجييرها! فهي صدى صوت الأنا النرجسية، وافتراء ابتكره العقل المتعالي وصدّره الفكر الغربي. ويتبنى هذا الاعتقاد ثائر أبو فخر- خبير ومترجم لغة فرنسية، ويقول: «الغريب أن كبار الأدباء يمّتنون ويدينون بالشكر للمترجمين الذين حالوا دون حبس كتبهم وأفكارهم في أوطانهم. وكانوا جسور التواصل بين اللغات من جهة وبين الأدباء والقراء من جهة أخرى. لكن في الوقت نفسه ظهرت بعض افتراءات ابتكرتها الأنا والعقل والفكر المتعالي. إنما انطلاقاً من هذا التعالي من سيكون الخائن في ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأوروبية وسواها»؟
يترك أبو فخر سؤاله معلّقاً ويستشهد بدفاع الناقد والمُنظّر الفرنسي رولان بارت؛ عن الترجمة، في منتصف القرن الماضي: «صحيح القول بأن المُترجم ليس بمكانة المؤلف الأصلي الذي أطلق أفكاره في فضاء كتابه. لكن الترجمة المخلصة بحيويتها الديناميكية هي كتابه ثانية للنّص، أقلّها إعادة كتابته بفعل القراءة، ليقوم خطاب فوق خطاب ويتأول النص وفق هذا المُعطى، حينها تجوب الترجمة فضاءً آخر وآخر كأنها طير يحلّق في كل الفضاءات».

عملية توّحد
يبدو أن قول «بارت» رغم تسجيله نتيجة عادلة لصالح المترجم لم يكن كافياً أمام التطرف في الدفاع عن الترجمة! تقول سوفانة الزاقوت- مُدرّسة ومترجمة لغة إنجليزية: «يمكن للمترجم الذكي أن يرقى إلى مصاف المؤلف. والذكاء لا يعني فقط الوفاء، بل أيضاً التوّحد خلال عملية نقل أو كتابة الكتاب مجدداً بأنامل تتداخل بإحساس وجمال وفن وتذوق، ليتوحّد المؤلف والمترجم معاً».
وتقدم الزاقوت في معرض دفاعها إجابة على هيئة سؤال: «كم قرأ العرب من ترجمات لأمهات الكتب العالمية من الأدب الروسي والأميركي والأوروبي في القرنين الماضيين، كانت الترجمة فيها ابنة بارة، حداً استهوتهم اللغة والأساليب والترجمات الفذّة. بحيث اقترن اسم المترجم باسم المؤلف»؟
ولا يفوت الزاقوت أن تنوه إلى أن «شبكة المترجمين في البلاد العربية يدافعون عادة عن أنفسهم درءاً لهذه التهمة عنهم وعن كل مترجم أوروبي أو أفريقي أو آسيوي أو أميركي. لأن كلاً منهم اختبر عذابات الترجمة التي لا تماثلها سوى عذابات وآلام الولادة».

خروج من العباءة
تقف الترجمة اليوم عند مفترق طريق رئيسي، بين من يريدها أمينة، حرفية، دقيقة، لا تعدو كونها صدى لصوت كاتبها الأصلي وانعكاساً لكلماته، ومن يفضلها ترجمة إبداعية تتنصل من أصلها، وتختار لنفسها طريقاً جديدة، موازية للطريق الأولى، دون أن تذوب فيها.
هذا ما تراه مي كرم- مديرة موقع ترجمة إلكتروني، وتترجم عن لغات أميركا اللاتينية. وتشير إلى معوّقات تصادف المترجم مما يتيح للنقاد وصف الترجمة بالخيانة! «بين التقليديين من مريدي طريقة الترجمة الحرفية المقولبة، والحداثيين من هواة أسلوب الترجمة المتحركة الإبداعية، يجد المترجمون أنفسهم تحت رحمة ما يريده العميل أو رئيس التحرير أو الناشر، خاصة أن بعض المترجمين الهواة يعملون من منازلهم، وبحسب عدد الصفحات وعدد الكلمات (!) بينما يرغب معظمهم في الخروج من الترجمة التقليدية لأنها مؤشر على البصمة والتفرّد».
تسترسل كرم موضحة: «نحن في عصر الترجمة الإبداعية، أي Transcreation بخاصة مع انتشار مواقع الترجمة الإلكترونية التي تنافس دور الترجمة والنشر، والسباق فيما بين مترجميها على المركز المتقدم في الجودة. وثمة من يتمكن من حل معادلة الوفاء للنص الأصلي والإبداع في ترجمته، وهي معادلة صعبة، لكنها تؤكد لمن يجيدها أنه استطاع الخروج من عباءة الترجمة التقليدية الاعتيادية، وكسر المعوقات ونفي تهمة الخيانة».

روح في جسدين
يتفاءل بمستقبل الترجمة علي الطيّب، اختصاصي ترجمة دبلوماسية- لغة ألمانية: «قريباً بفضل العولمة وريادة الترجمة، سينتهي وجود إشكالية خيانة الترجمة، فالكل (نقاد وقراء) يتمتع بالجهوزية لتقبّل واقع أهميتها في التواصل الحضاري والثقافي، والحياة عموماً. لأن اللغة في كينونتها هي قلب الترجمة، والترجمة عقل اللغة، و«كلاهما روح في جسدين».
ويستعين الطيّب بقول الفيلسوف الألماني «مارتن هيدجر» حول ثنائية اللغة والترجمة:«يرى هيدجر أن اللغة هي التجلي الوجودي للعالم، وهي وطنه، ودونها لا إنسان هناك ولا تواصل بين البشرية» لأن الأمان الحقيقي للإنسان ـ والكلام للطيّب ـ مبني في واحدة من ركائزه على معرفة لغة الغير لأنها تفتح له باب السجن ليتواصل مع الآخر ويصبح كائناً تواصلياً. وإنجاز المترجم العظيم هنا أنه يفتح أبواب السجون له ولغيره من القراء. بحيث سيكرّس العالم مفهوم الترجمة، أي روح في جسدين، يراها ويلمسها قرّاء العالم».

ركائز الترجمة
يشترط الدكتور عدنان عزوز عميد كلية الآداب في جامعة قاسيون، أستاذ الأدب والترجمة في قسم اللغة الإنجليزية. توفر عدة ركائز ومهارات وملكات لدى المترجم لئلا توصف ترجمته بأنها «خائنة للنص الأصلي» وينوه قبل تعدادها إلى أهمية الإبداع لدى المترجم. الإبداع في كل ما يتصل بمراحل عملية الترجمة.
الركيزة الأولى: لابد أن يكون ملماً بثقافة اللغة التي يترجم منها إذ أن هنالك الكثير من القيم والعادات التي تبدو محرمة ومنبوذة في مجتمع ما إلاّ أنها تعتبر صفات محمودة ومرغوباً بها في مجتمع آخر! ولذا فإن فهم حضارة وقيم أصحاب اللغة التي يترجم منها هو عامل حاسم في نقل هذه العادات على أنها ذات طابع سلبي أو إيجابي.
الركيزة الثانية: لا بد أن يتمتع المترجم بخلفية ثقافية جيدة حول الموضوع أو المضمار الذي يترجم منه أو إليه، ولا يفترض هذا الأمر منه أن يكون مختصاً، رغم أن هذا الأمر سيجعله متمرساً وضليعاً في المصطلحات أكثر، وسيسهل عليه فهم الأفكار الموجودة في الكتاب الذي يقوم بترجمته، وبذلك سيقوم بنقل هذه الأفكار بكل أمانة وذكاء، وليس هنالك أي ضير من إضافة حواش مناسبة للتعريف بالمصطلحات الجديدة وغير الرائجة لدى جمهور القراء.
الركيزة الثالثة: الابتعاد عن إضفاء الطابع الشخصي أو إقحام أفكاره وقيمه الأخلاقية في النص الذي يتناوله. إذ أن النص هو مسؤولية الكاتب الأصلي أولاً، وهو وحده من يتحمل تبعات ووزر الأفكار المطروحة فيه سواء كانت هذه الأفكار مقبولة اجتماعياً أو دينياً أو أخلاقياً أو غير مقبولة.
لذا وحيث أن المترجم أخذ على عاتقه ترجمة هذا النص فلا بد أن يكون وفياً أميناً في نقله لأفكار الكاتب وصياغتها بأفضل صياغة، كأنما كتبت من قبل الكاتب الأصلي باللغة المترجم إليها.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©