الثلاثاء 30 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفيزياء والفلسفة.. أي علاقة ؟

الفيزياء والفلسفة.. أي علاقة ؟
26 ديسمبر 2019 00:05

في ظل سطوة أطروحة «موت الفلسفة»، تقفز إلى أذهاننا أسئلة عديدة مرتبطة بدور الفلسفة اليوم ومستقبلها، من حيث إنها بوابة للتفكير والتأمل وميدان شاسع لطرح السؤال. إذ إن هذه الأطروحة فُهمت عكس ما أريد لها. إن الموت هنا بمعنى «نهاية» حقبة وميلاد حقبة أخرى، لا موتا «حقيقيا» ترتب عنه «دفن» الفلسفة وطَمْرُها. لم تكن قط الفلسفة قبل الفيزياء الحديثة منفصلة عن العلوم وفي منأى عن الأسئلة التي تطرحها، بل إنه لمن النادر قبل عصر العلوم الحديثة الحديث عن عالِم مختص في مجال علمي محدد فقط، حيث إن العالِم كان هو القادر على الجمع بين معارف عديدة والقادر على التفكير ضمن أنساق مختلفة، بالمعنى الأدق أنه كان «شمولياً» و«موسوعياً»، رجلاً حكيماً يتصف بعقل فلسفي يقوده إلى إدراك الأمور ضمن مجالات كثيرة في الفيزياء والكيمياء وعلم النباتات واللغة والشعر والطب والفلك والموسيقى والتاريخ والفلسفة... إنه «رجل» حكيم، يمتلك الحقيقة في «قلبه» وكتبه وتفكيره.
في عصرنا الحالي ظهرت أصوات تشكك في «موسوعية» الفرد، بل إنها تشكك حتى في كون الفلسفة قادرة على التفكير في ظل سطوة العلوم، واحتلالها المساحة الشاسعة التي كانت تمتلكها الفلسفة. فهل فعلا «ماتت الفلسفة»؟ أو على الأقل انزاحت تاركة المجال للعلوم التي انشقت عنها وانقلب عليها؟
قد يكون أشهر الفيزيائيين الذين شكوا في قدرة الفلسفة على الإجابة عن الأسئلة والتفكير في الواقع الحالي، في الوقت الذي باتت فيه التكنولوجيا والعلوم الحية تكتسح كل مجالات التفكير والحياة اليومية لكل الأفراد، قد يكون أشهرهم «نيل ديغراس تايسون» الذي استخفّ بوضوح بالفلسفة قائلاً إنها لا يمكن أن تكون سوى مضيعة للوقت. لكن بالمقابل نجد فيزيائيين معاصرين قد استطاعوا أن يوازنوا بين الفيزيائي من حيث حقل اشتغال تطبيقي وتجريبي والفلسفة من حيث إنها مجال للتأمل والتفكير، من بين أشهرهم وأهمهم أحد رواد الفيزياء الحديثة وفيزياء الكم بالخصوص، إذ أصدر الفيزيائي «فيرنر هايزبنرغ» كتابه «الفيزياء والفلسفة»، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها في جامعة سانت أندرو في أسكوتلندا في الفصل الشتوي للسنة الدراسية 1955/‏‏‏1956، محاولاً أن يوضح العلاقة بين فيزياء الذرة الحديثة (فيزياء الكم) والمسائل الفلسفية الأكثر عمومية. من هذا المنطلق نلج بدورنا إلى مقالنا هذا، حيث نحاول أن نبحث عن العلاقة التي تربط بين الفيزياء كحقل علمي والفلسفة كمجال للتفكير.

الفلسفة والنزعة العلمية
ينطلق أنصار العلوم ومهاجمو الفلسفة من رؤية تنتمي إلى ما يسمى بالنزعة العلمية scientisme، حيث يرون أن «العلم، والعلم الطبيعي خاصة، هو الجزء الأعظم قيمة في المعرفة البشرية – وهو الجزء الأعظم قيمة لأنه الأكثر جدارة بالثقة والقبول، والأكثر جدية، والأكثر نفعاً». إذ إن «النزعة العلمية –في نظرهم- على وجه التقريب هي الرأي القائل إن العلم وحده يمكن أن يزودنا بمعرفة أو اعتقاد عقلاني، وأن العلم وحده يمكن أن يخبرنا بما يوجد، وأن العلم وحده يستطيع أن يوجّه أسئلتنا الأخلاقية والوجودية توجيهًا فعّالاَ». بالتالي فهم ينكرون عن الفلسفة قدرتها على مجاراة التفكير المعاصر ومآلات الواقع العلمي والمجتمعي والأخلاقي المعاصر. مدافعين عن أطروحة قائلة بإن العلوم لوحدها القادرة على الجواب على الأسئلة الكبرى المعاصرة مهما تعقدت وتعددت، ومهما كان مجالها. بينما يعتبر أنصار الفلسفة وفلسفة العلوم أنه لم يحدث قط أي انفصال مبرم بين الفلسفة والعلوم، بل ما حدث هو تطور على مستوى الاشتغال الابستيمولوجي الذي قاد إلى ظهور فلسفة العلوم، وهي الفلسفة القادرة على دراسة لا تاريخ العلوم بل تطبيقاتها الابستيمولوجية في العالم والواقع وكما دراسة كل علم على حدة، وكما دراسة التداخل المعرفي بين العلوم ما يمكن من تقسيمها وتحديد فروعها... ولأن فلسفة العلوم لم تهتم بالعلوم لذاتها، بل بما هي فلسفة في المعرفة، فإن الإبستمولوجيا سرعان ما غدت توازي في معناها «علم المعرفة». ونجد أنصار هذا الطرح يعودون بالتاريخ إلى بواكير الفلسفة الإغريقية التي يمكن عدّ أقطابها الأعلام أوائل فيزيائي عالمنا، ونشير هنا إلى الفيلسوف الإغريقي «ديموقريطس» الذي كان أوّل من أشار إلى المبدأ الذري Atomisme وتخلّدت ذكراه في العمل الفلسفي الفخم الذي كتبه «لوكريشيوس» بعنوان «في طبيعة الأشياء»، وكما نشير إلى كتاب «الفيزياء أو السماع الطبيعي» لـ«أرسطو»، حيث انتقد فيه أرسطو تصور ديمقريطس القائل بأن «الوجود بكامله مركز في إنسان واحد»... ما يقودنا إلى القول بأن الفلسفة لم تكن منفصلة أبدا عن البحث عن الإجابة المتعلقة بالمجال العلمي والفيزيائي، بل إن اشتغال جل الفلاسفة صب في هذا التوجه المعرفي، كما فعل فرانسيس بيكون وهيوم وغيرهما.

من كانط إلى نيتشه
قد تكون نظرية النسبية من أهم النظريات الفيزيائية التي أتت بها الفيزياء الحديثة مع أينشتاين، لتغير نظرتنا إلى العالم وتصورنا المسبق عنه، باعتباره شكلا منظما ومنسقا يمكن إدراك حقيقته، من حيث إنها حقيقة ثابتة، مهما اختلفا زاوية النظر إليه. فمع النسبية بات العالم خاضعا لزاوية النظر وإلى مجال الرؤية، فهو يتغير كلما تغيرت زاوية نظرنا إليه وتغير مكانا ومجال الرؤية. بل إن المشاهدة نفسها تغير النتيجة والتجربة وتحدث فيها تحولاً كبيراً (فيزياء الكم)، كما يحدث في «الأجسام السوداء»، وكما يشرح لنا «شرودينغر» بتجربة قطته الشهيرة... وإننا نلمس هذا المعطى الفيزيائي في فلسفة إيمانويل كانط (1724 - 1804)، حيث «قد ساهم كانط بمثاليته النقدية في فتح الباب واسعاً أمام النسبية المعرفية، عندما فرق بين الشيء لذاته والشيء لأجلي، وحدد بذلك نصيب الإنسان من المعرفة، بحيث لا يمكنه الحكم بأن ما يتصوره عن الخارج، هو نفس الموجود بالخارج أو الشيء في ذاته، وكل ما يمكن أن يُّدرك نسبي لا يتعدى رمزاً يشير إلى كلِّي الحقيقة، فلم يكن الشيء في ذاته أو الشيء كما هو ذو قيمة بعيداً عن انطباعات النفس المدرِكة لذلك الشيء، ولولا تلك العلاقة التي تفرضها الذات المدرِكة لما كان يحمل الشيء في ذاته أي تصور معرفي، هذا هو حاصل التفريق الذي قام به كانط بين الشيء لذاته والشيء بالنسبة لنا، حيث جعل المعرفة البشرية نتاج علاقة تفاعلية بين الذات الفاعلة بكل ما تحمله من تجارب والذات المنفعلة، وحاصل النسبة بينهما هي المعرفة الإنسانية»، يقول كانط: «عن طريق الحاسة الخارجية وهي صفة لذهننا، نمثل لأنفسنا الأشياء على أنها خارجية عنا، وموجودة في المكان»، بل إنه ليقول في إحدى مقولته: «كلما دخل المراقب مجال التجربة أفسدها أو أحدث عليها تغييرا»، وهذا عينه ما تذهب إليه فيزياء الكم فيما يسمى بقطة شرودينغر، حيث إن التجربة تظل كل احتمالاتها صائبة وممكنة، حتى يفتح المشاهد/‏‏‏المراقب العلبة (الجسم الأسود)، فتصير بالتالي عملية الرصد مشوشة ولا ترصد إلا احتمالا محدداً من بين كل الاحتمالات الممكنة، وهو عينه ما يقع في تجربة «قذف الإلكترونات في الشق المزدوج»، فالإلكترون يتصرف باعتباره موجة خارج المراقبة، وما أن يتم رصده حتى يتصرف باعتباره جسيما (مادة)، ما يجعل المادة عبارة عن «ازدواجية» بين الموجة والمادة.
وليس كانط إلا نموذجا من بين فلاسفة عديدين أدركوا أموراً عديدة تمكنت العلوم والفيزياء خاصة من إثباتها لاحقاً، بزمن متأخر. إذ نجد نظرية «العود الأبدي» لنيتشه. تتحدث هذه النظرية عن فكرة أن الزمن وهم، وأن الكون أسطواني الشكل ومضغوط، وأن دورة حياة الكون تعاد كل فترة، كشريط سينمائي لا يتوقف. فكلما انتهى الفيلم بدأ مرّة أخرى، بنفس تتابع المشاهد وبنفس حركة الممثلين، ولا يمكن لهؤلاء الممثلين إدراك فكرة أنهم يعيدون نفس المشاهد أبدًا، لأنهم بداخل الفيلم. لذلك يجب مراقبة هذا من مكان خارج حيز الفيلم، كي تستطيع إدراك أنه يُعاد. وكان رأي «نيتشه» أن هناك كائنات متقدمة بمراحل عنا يستطيعون رؤيتنا من هذه الأماكن التي تقع خارج الزمن العادي للكون، فالكون -بالنسبة لهم- أشبه بلعبة القطار الذي يدور حول نفسه ومن بداخله لا يدركون أنهم يدورون حول أنفسهم فقط.

من ديكارت إلى هايزنبرغ
عودة إلى كتاب «الفيزياء والفلسفة» لفيرنر هايزنبرغ، حيث يحاول هذا الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل سنة 1933، بفعل ما برهن عليه في نظريته الشهيرة حول الارتياب أو عدم اليقين (أو الشك)... يحاول أن يناقش الفيزياء الحديثة بلغة ليست على جانب كبير من العلمية ويدرس نتائجها الفلسفية ويقارنها ببعض التقاليد القديمة. ولأنه لما كانت نظرية الكم –كما يقول- ليست إلا قطاعا خاصا من قطاعات الفيزياء الذرية، وبالتالي ليست الفيزياء الذرية إلا ميدانا محدودا من ميادين علم الطبيعة الحديث، فإنها تشترك والفلسفة موضوع فهم الطبيعة سواء عبر تأملات ميتافيزيقية أو تجارب وضعية أو غيرها، بل إن تحول الفيزياء وباقي العلوم من مجال الميتافيزيقيا إلى الفيزيقا، لم يكن ليتأتى لولا الفصل المبرم الذي أحدثه مع الميتافيزيقيا نيتشه كفيلسوف... إذ لم يكن هم فهم الطبيعة واشتغالها بمعزل عن الأسئلة التي تتطرق إليها الفلسفة منذ سقراط إلى يومنا هذا. «من هذا المنطلق تظهر أهمية العلاقة الوثيقة بين العلم والفلسفة، فالمشكلات التي تعالجها وتكتشفها علوم كالفيزياء بشكل خاص، ثمّ الكيمياء، بل وحتى الوراثة والبيولوجيا، هي قريبة بدرجة ملموسة إن لم تكن مطابقة للمشكلات التي تعالجها أو تطرحها الفلسفة، وإن كانت طريقة وضع المشكلات في كلا الميدانين مختلفة إلى حد ما منهجياً، ذلك أن العلم يقيم محور تفكيره غالباً على التجربة نفسها، التي يبدأ منها أو ينتهي إليها بالضرورة، كما أنه يعالج معطيات الحس، حيث تظل تركيباته العقلية مهما اختلفت معطياتها خاصة بشكل أو بآخر مع أشكال التجربة المباشرة، في حين نجد الفلسفة بالرغم من أنها تسلّم في مجملها بالنتائج التجريبية للعلم وتركيباته النظرية، إلا أنها تتأمل الدلالة أو مجموعة الدلالات التي تقرها العلوم من أجل أن تقوّم الجانب الذي علينا أن ندركه من الواقع، مستعينة بنقد دقيق ونفّاذ. لذلك بإمكاننا القول إن العلم دون فلسفة عبارة عن تجارب عشوائية مبعثرة، والفلسفة بلا علم تجريد عقيم. قيمة بذاتها فقط».
عودة إلى مبدأ اللايقين كما طرحه هايزنبورغ، والذي برهن به في الوقت نفسه الذي وضعه فيه شرودينغر نظريته، نفس ما ذهب إليه هذا الأخير، إلا أنه اعتمد على معادلة رياضية لصياغة «الريبة»، من حيث استحالة رصد الإلكترون إن حاولنا معرفة سرعته، والعكس صحيح، فكلما أدركنا سرعة الإلكترون استحالت علينا معرفة مكانه، ما سيقود فيزيائيين من بعده إلى الحديث عما سموه بالسحابة الإلكترونية، أي أن الإلكترون لا يتحرك في مدارات وحلقات بل في سحابة من الاحتمالات، وهو ما سيسقط بظلاله على الفلسفة المعاصرة، من حيث إنها أزالت عن نفسها عبء البحث عن الحقيقة ورصدها، إذ إن الحقيقة ليست فقط نسبية بل إنها خاضعة لنسبية النسبية (بول ريكور). وهو ما نلمسه عند ميشيل فوكو حينما يتناول موضوع «الانفصال» مفنداً كل فكرة ترى بأن الأحداث التاريخية والفكرية يربط بينها «اتصال»، من حيث، إن عملية التقدم هي عملية قطائع فجائية، وبالتالي فالحقيقة التاريخية ليست خاضعة لسيرورة والاستمرارية.
وإن كان ما قاله هايزنبرغ قد قوبل من قِبل الكثير من علماء الفيزياء (من بينهم آينشتاين) باستهجان، فإن الفلاسفة لم يروا هذا الكلام على أنه كلام غير علمي أو غير حقيقي، فرائد الفلسفة الحديثة الفرنسي «رينيه ديكارت» قد قال كلامًا يشبه كثيرًا هذا الكلام قبله بحوالي ما يزيد عن قرنين، وأرسى القواعد العقلية في التفكير، وأن الشك هو أصل كل يقين، فكل مبدأ يصمد أمام الشك يمكن اعتباره حجر زاوية في البناء، وكل مبدأ يسقط أمام الشك فهو زائف. وهذا ما كان يحاول هايزنبرغ قوله لكن عن طريق الفيزياء. ما يجعل الفيزياء والفلسفة يربط بينهما همّ واحد، هو هم البحث المستمر عن طرح الأسئلة المتعلقة الطبيعة والوجود والإنسان، وهي الأسئلة التي تسكن الإنسان أبداً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©