الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جين دارويل صاحبة الدور الخالد.. أم السينما الأميركية

جين دارويل صاحبة الدور الخالد.. أم السينما الأميركية
13 فبراير 2020 00:26

من هذه الممثلة التي تلعب دور الأم؟
هذا هو السؤال الذي يتبادر الآن إلى عقول مشاهدي السينما الهوليوودية في الثلاثينيات، وما يليها، خاصة في دورها البديع الذي خلد موهبتها بفيلم «عناقيد الغضب» 1940، والذي نالت عليه جائزة أوسكار أفضل ممثلة مساعدة، وسكنت بأدوارها الكثيرة (200 دور) قلوب المتفرجين من كل الأجيال، فعُرف عنها أنها (أم) السينما الأميركية، رغم إنها لم تتزوج طوال عمرها المديد (1879-1967)
اسمها الحقيقي باتي وودارد، ولكنها اضطرت لتغييره، حتى لا تسيء لعائلتها المرموقة، بعدما قررت أن تكون مهنتها التمثيل على خشبة المسرح أولاً، ثم في السينما الصامتة، ليصبح اسمها هو جين دارويل. وتربت في مزرعة كبيرة بميسوري، ثم عانت حتى تقنع والدها الموظف الكبير بالسكك الحديدية، بأن يسمح لها بتعلم فن الغناء الأوبرالي، وفن التمثيل، لكنه رفض تماماً، مما أدى بها للتفكير جدياً في الالتحاق بالدير، لكنها تحولت عن ذلك، وجعلت تفرغ طاقتها المكبوتة، بالعمل مع فرق السيرك، وفرق الأوبرا والمسرح الصغيرة المتجولة، لتعانق موهبتها كيان هذا الفن، بممارسته لأول مرة، ومروراً بذلك أخذت تتلقى بعض الدروس الخاصة في فن الأداء الصوتي، والدراما، حتى وجدت فرصتها، لتعمل أخيراً على المسرح كمحترفة، بعد أن وصل عمرها 33 عاماً.

وضعت دارويل قدميها في فضاء فني جديد، وهو فن السينما الصامتة عام 1913، حيث كان عمرها وقتئذ أربعين عاماً، لتصبح مسيرتها السينمائية الممتدة لمدة نصف قرن جزءاً أساسياً متشابكاً مع تاريخ السينما الهوليودية، وكان أول أدوارها الحقيقية في فيلم (توم سوير) عام 1930 للمخرج جون كرومويل، ومنها بدأت تؤدي أدواراً صغيرة نمطية، حتى نالت الأوسكار، وصارت الممثلة الخامسة عشرة التي تحصل عليها في تاريخ المسابقة، ثم اعتزلت السينما عام 1959، لتقدم في التليفزيون أدواراً جذابة، إلى أن أعادها والت ديزني للشاشة الفضية، بذهابه إليها، كي تقبل دوراً في فيلم (ماري بوبينز) 1964، فأدت فيه دوراً مخملياً «السيدة الطائر»، حيث كانت آخر كلماتها فيه هو: اطعم الطيور. وبعدها بثلاث سنوات سكت قلب جين دارويل فجأة، بعد أن بات اسمها منقوشاً ومتوجاً (بنجمة هوليوود) في ممر المشاهير بالمدينة.

أدوارها القصيرة
لم تدرس «دارويل» في كلية أو معهد، مثل بعض رفيقاتها، ولم يكن لديها أيضاً زوج غني يدعمها في أول رحلتها المهنية، كما كان الحال مع الممثلة مارجريت ديمونت، وبيللي بيرك، فكل ما كانت تملكه هو طبيعتها الفطرية في الأداء، وروحها المرحة، وكبرياؤها أيضاً بما يتطلبه المشهد الدرامي، فضلاً عن اجتهادها الدؤوب، وألمعية ذكائها في تقبل تعليمات المخرجين، مما جعلها مع كل هذه العوامل تطور أدائها تدريجياً*... والمتأمل في ملامح وجهها المكتنزة السمحة، حيث تكشفها الكاميرا للمتلقي من عدة زوايا وعدسات، يشعر أنها من أولئك البشر الطيبين البسطاء الذين نبتوا من أديم هذه الأرض، ولديهم ميل غريزي لاحتواء هموم الآخر، في إنسانية عذبة.
وبسبب طبيعة جسمها الممتلئ، والقصير، حبسها المنتجون في إطار الأدوار القصيرة جداً والنمطية، كالأم، والجدة، ومديرة الملجأ، والجارة، وهكذا، لدرجة أنها كانت تمثل مشهداً واحداً فقط، فإذا كان الفيلم طويلاً، فأول شيء يتم حذفه من الفيلم هو دورها، واستمرت على هذا المنوال تكافح في صبر في أول عشر سنوات كاملة بهذه الأدوار المسطحة، والتي بلغت 96 فيلماً، ومن أبرزها:
مسز تيرنر في (سيدات البيت الكبير1931– إخراج ماريون جيرينج)، مسز شميدت الحازمة في (الشارع الخلفي- 1932- إخراج جون ستاهل)، والطباخة الحنون مع أول أفلام الطفلة شيرلي تمبل (العيون اللامعة -1934- إخراج دافيد باتلر)، ومديرة الملجأ اللبقة مع الطفلة جين ويزرس في (الأنسة المجهولة الصغيرة-1936- إخراج جون بلايستون).
وما نعجب له أنها بعد هذه الأدوار المحدودة، قفزت إلى دور البطولة، وبعدما كان اسمها لا يذكر مطلقاً في ملصق الدعاية البوستر، صار اسمها أول اسم مع النجمة كلير تريفو، في فيلم (نجمة الليل- 1936)، وهو الدور الذي لا يذكره الكثير، وفي هذا الدور لعبت دور الأم النمساوية الكفيفة التي تسافر لأميركا، لتطمئن على بناتها الثلاث هناك، ظناً منها أنهن حققن نجاحاً، ثم تفاجأ بالعكس، والتعجب هنا يأتي بعد دور البطولة، حيث عادت مرة أخرى، لتقبل عن رضا أو مضطرة، أدواراً صغيرة بعدها مباشرة، فتقبل تمثيل مشهد واحد أو ما يقارب، بمثل دورها الناجح في الفيلم الشهير (ذهب مع الريح-1939)، إلى أن جاءت القنبلة المدوية بعدها بسنة في دورها بفيلم (عناقيد الغضب) لرائد الواقعية/‏ جون فورد، لتعود (دارويل) إلى البطولة مع النجم هنري فوندا، حيث لعبت دور الأم المسؤولة عن أسرتها التي ترحل بسبب الأزمة الاقتصادية- في أواخر العشرينيات- إلى مزارع كاليفورنيا، لإيجاد أي فرصة عمل، وهي عن رواية ذائعة الصيت لجون شتاينبك، ويعاودنا هنا أيضاً الاندهاش، حيث إن بعد فوزها بجائزة بالأوسكار عن هذا الدور ma joad)، نجدها عادت إلى الأدوار الصغيرة، وإن كان منها ما غيرت فيه جلدها نوعاً ما، مثل دورها في فيلم الويسترن (حادث قوس الثور– 1943- إخراج ويليام ويلمان)، فقدمت شخصية لديها طبيعة سادية، تجلت في فرحتها بإعدام المتهمين في قتل مزارع في بلدتها دون تحقيق، وأطلقت فيه ضحكتها الرنانة الشامتة، قبيل لحظة الإعدام، فكانت موفقة، رغم محدودية الدور.

تقنيات أدائها التمثيلي
يقول المخرج الكبير صلاح أبو سيف: «لا يوجد في السينما ممثل جيد وممثل رديء، لكن يوجد مخرج جيد ومخرج رديء»، وهذا القول (المجازي) يقودنا لعلاقة إبداع (جين دارويل) مع المخرج جون فورد الذي بلور موهبتها، وعملت معه 6 أفلام منها:(حبيبتي كليمنتين- 1946، ثلاثة أباء روحيين- 1948، سيد العربة – 1950) مما وضع اسمها في قائمة أهم الممثلات اللائي ارتبطن بعالم الويسترن (سينما الغرب الأميركي)، أيضاً قامت بالتعليق الصوتي في فيلمه التسجيلي (معركة ميدواي)، حيث استغل المخرج صوتها المفعم بالحس.. ولعل فيلم (عناقيد الغضب) ودورها الرائع فيه هو خير مثال لشرح أهم ملامح التمكن للممثلة، والبداية أصلاً جاءت من إصرار المخرج على اختيارها هي، بعدما كانت الممثلة بوندي مرشحة لهدا الدور الرئيس.
وأدوات الممثل في السينما ليست فقط موهبته، لكن تناسق موهبته ودخوله في الشخصية، مع بقية عناصر الصورة، وأولهم المخرج، ومدير التصوير، والمونتير، إلخ، فمثلاً في المشهد الذي يصارح به الابن هنري فوندا أمه سراً برحيله، تحت إضاءة شبه معتمة للمصور الفنان جريج تولاند، وبتقطيع اللقطات بين وجهه ووجهها، في أحجام مكبرة، أتاحت إبراز قدرة (دارويل)، خاصة في لقطات (رد الفعل) الصامتة التي تتغير على وجهها الطيع من (توتر، لغضب، لحيرة، لحزن، لبكاء) كل هذا أثناء حوار ابنها، وهو يخبرها برحيله، وأسبابه. والمعروف أن لقطات (رد الفعل) تُعد من أصعب أنواع الأداء التمثيلي، وتكشف درجة قوة الممثل، لذا نجد (دارويل) تستجلب من خيالها اليقظ، وذاكراتها الانفعالية والحياتية الغنية، ما يسهل لها تكييف عضلات وجهها المرنة، للتعبير المناسب المرئي عن كل لحظة شعورية نفسية، كذلك استعملت حركة بسيطة لأصابع يدها تشبكها في الأخرى، لتعبر عن توترها الداخلي لما سيؤول موقف أسرتها بعد قرار ابنها بالرحيل، وكما قال/‏ ستانسلافسكي: «في كل حركة جسدية عنصر نفسي، كما أن في كل فعل نفسي عنصراً جسدياً» فنجد (داوريل) تعاملت بهذه الوسيلة بعفوية عبر حركة أصابعها العابرة، وهي لازمة لها كررتها من قبل، كما في مشهد البداية بفيلم (جيسي جيمس). ولا شك أن كون (جون فورد) واعياً بفن بالممثل، ويمده بكل الملاحظات، بل يلزم الممثلين بتخيل تاريخ الشخصية الدرامية في المرحلة التي تسبق. (back story) بدء أحداث الفيلم. كل هذا جعل تألق (دارويل) معه متوهجاً، على الرغم من قسوة وعنف المخرج الذي اشتهر به في توجيه النجوم، وشتمهم علانيةً، بل ونكزهم بيده لتقريعهم، ويضطر أحياناً أن يعيد معهم اللقطة (40 مرة)، لكن (دارويل) - كما يسجل المؤرخ سكوت ايمان- كانت مرعوبة من تأدية مشهد ترقص وتغني فيه، في الفيلم، لكنها نجحت في تمثيله من أول مرة.

أمثلة بارزة
أهم أدوات دارويل وسلاحها الأول هو نظرات عينيها النافذة، فهي صاحبة كاريزما تشد العين نحوها، وهوما بدا لأول وهلة بالفيلم، عندما ترسل نظرتها التي تحمل مزيجاً من الشك، والأمل معاً في مصداقية الخبر، بخصوص طلب عمل في مزارع كاليفورنيا، ثم نرى في اللقطة التالية تعبير وجهها تنفر فيه عروق الجبهة، من زاوية الكاميرا السفلية التي أتاحت لنا رؤية تفصيلات تعبيرها الدرامي عن صلابتها، وهي تتجه نحو باب البيت، لتتعرف على الواقف بعيداً، حتى تجده ابنها العائد من السجن، فينقلب تعبير وجهها بنظرات عينيها إلى حنان مسكوب، مع توظيفها لطبقات صوتها، لتخرج معها أرق مشاعر الأمومة، وهي تحدثه مشتاقة.
ومن أبرز ما أبدعته في هذا الدور قدرتها - دون افتعال- في جمع أكثر من إحساس وتعبير نفسي في آنٍ واحد، مثل مشهدها الذي تتولد فيه بوادر التعاطف من قلبها على الأطفال الجائعين أمامها، وهم ينظرون للأكل بين يديها، ومع تعبير وجهها العطوف، نقرأ دخيلة مشاعرها غير المرئية حيث تزيد درجة تعاطفها، وقد وصلت لقرار بإطعام الأطفال، ومعها تدور برأسها للوراء في لقطة واحدة دون قطع مونتاجي، لتصرخ فجأة بصرامة على رجال أسرتها، بأن يدخلوا بأطباقهم للداخل، ثم تعود لتبدل ملامح الصرامة إلى الحنو على عوز الأطفال، فهي ترسم درجات من ألوان التعبير المتداخلة، وتتقن في إيصالها للمشاهد بمصداقية وسلاسة.
ولا شك أن مشهد تأملها لحاجياتها القديمة المنسية، قبيل الرحيل عن البيت، لا تستطيع أن تقوم به إلا ممثلة تملك ملكات التعبير بالإيماءة، واختلاج الشفاه، ورفة الرمش، وتنهيد القلب، في التعبير الصامت عن مكنون مشاعرها المنتمية، لتلك الأشياء البسيطة التي تمثل لها فاكهة العمر، دون أن تنبس بحرف!!
ولا يفوتنا أن نتجاوز عن المشهد الذي تُبلغ فيه ابنها بوفاة أمها في الطريق، فقدمته دون بكاء ومبالغات مصطنعة، ثم قامت بحركة مدهشة بكف يدها للتعبير عن إحساسها الفاجع المكتوم بفقد أمها، حيث وضعت كف يدها على خدها بحركة لا إرادية، واستعمال اليد بتلك الكيفية، أضفى تفصيلة جسدت بالحركة المعبرة ازدواج الوجع الغائر في حناياها، مع واقعيتها الظاهرية في تقبل الأمر القدري المتوقع.
وتبقى النهاية الفاتنة التي اعتمد فيها المخرج على ثبات الكاميرا، وعلى حجم اللقطة (المتوسطة/‏ المكبرة)، مما يتيح للممثل أن يسترسل في التعبير، دون بتر تواصل الإحساس. وبنظرة بديعة ثابتة نحو الأمام، من داخل السيارة، تنهي (دارويل) الفيلم الكبير عن الظلم الاجتماعي للفقراء والمحتاجين، وبعيون يفيض منها العزم، والزهو، تنطق نبراتها الدرامية الواثقة آخر كلمات الفيلم: نحن الناس التي تعيش، هم لا يستطيعون محونا، سنتقدم للأمام دائماً، أيها الوالد، لأننا الناس.
-----------------------------
مصادر:
• Actresses of Certain Character –Axel Nissen*

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©