قليلون من يعرفون أن جدتي لوالدي لقيت حتفها في بئر، وقد كانت حبلى. يقول والدي، وقد كان أصغر أبنائها، تكبره خمس بنات، إنه لا يتذكر وجهها وكل ما يدركه من طفولته أخته الكبرى التي ربته. ربطتني هذه التفاصيل وقت قراءتي لأولى صفحات رواية «تغريبة الفاقر» للروائي العماني زهران القاسمي، فهي تدور حول سالم الذي خرج سالماً من بطن أمه رغم موتها غريقة في بئر القرية. ولهذا كان للرواية وقع قريب وغريب عليّ منذ صفحاتها الأولى، ذلك الوقع الذي استمر حتى آخر صفحاتها بكل صخب وغضب رغم بساطة المكان وهدوئه الشديد، ولا أعلم كيف لأماكن كهذه تولد كل هذا الشرر!
تدور أحداث الرواية، التي حصلت على الجائزة العالمية للرواية العربية العام الماضي، حول حياة ذلك الطفل الذي خرج من بطن ميتة غريقة ليرشد من حوله إلى مكان الماء في بيئة شح فيها وجفت فيه الحياة. يعيش «سالم» حياة صعبة ورغم ذلك يتجاوزها بفضل والده وجدته حتى أصبح رجلاً. وفي سيرته يشهد «القافر»، وهو لقبه الذي عرف به كونه يتمكن من تتبع ومعرفة مكان الماء، حصار والده أثناء عمليات الحفر لإطلاق الماء، ولكنه لا يراه، وإنما يسمعه وهو يوصيه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة قائلاً: «…باه سالم أسمع الماي يجي من بعيد، أسمع كل قطرة تبلل روحي، عطشان یا باه». ثم يوصيه بترك أرضه والبحث عن أماكن أخرى يتوافر فيها الماء، أماكن تعرف قيمته وتقدره، ثم يواصل الأب حديثه الأخير: «عطشان أسمع صوت أمك، أسمع ضحكتها، باه صوت أمّك جنة، ويدينها كانت حياة».
لم يتحدث سالم عن وصية والده لأي أحد، كما أنه لم يلتزم بها وإنما التزم أرضه رافضاً فرصاً كثيرة للخروج والبحث عن الماء في أماكن أخرى، وبقي زمناً حتى قرر القبول بمهمة بحث في مكان قصي، تاركاً قريته وزوجته، وقد كانت المهمة الأخيرة التي تعمد الكاتب أن يترك نتيجتها غامضة بلا نهاية.
كان مشهد موت «أبو سالم» مرسوماً ببراعة شديدة، وجعل الروائي زهران لوصية الرجل بعداً عميقاً في متن الرواية، فصاغها بلغة حكيمة، رغم كتابتها باللهجة المحلية، ومفردات مفعمة بالحميمية ولهذا لا يمكن العبور عليها من دون التوقف على دلالتها في النص. أتساءل عن طعم الخيبة التي تجرعها رجل يوصي ابنه بمغادرة أرضه. غير أن فجاعة المشهد الأخير يأتي كرد بليغ -من وجهة نظري- على عدم سلامة حكمة وصية الأب، إذ تأتي النهاية بقسوة أشد، قسوة مغلفة باليأس والحزن والعجز وطعم الخيبة المر.. بعيداً عن الوطن.. وحيداً.