ما يحدث من حروب عصبية، إنما هي نتيجة مباشرة لما يحدث من تسرب في فتحات العقل المعطوب، وهو الأمر الذي يدل على أن العقل عندما يصاب بالعته الذهاني، فإنه يصبح مثل موجة عارمة لا تبقي ولا تذر، يصبح العقل مثل طفل متوحد لا يعي ما يدور من حوله، ولا يعرف أن ما يقوم به من تصرفات لا واعية سوف يدمر البناء الإنساني من حوله، وسوف يصبح العالم المحيط به ليس إلا كومة قمامة يقوم هو بكنسها وإزالتها، الأمر الذي يجعل الحياة مجرد صراع الأضداد وحرب بين مخالب مسننة ومعارك تدور رحاها على أعقاب فكرة زائفة دلت أصحابها إلى مواطن مظلمة، فلا يرى الإنسان من هو أمامه ولا من هو خلفه.
سمى الغزالي المنطق بالميزان أو المحك أو المعيار، ولكن عندما يختل الميزان تصبح الحياة فوضى حواس، معترك عقول فقدت الصواب، لذلك نقول: ليست الأديان ولا الأيديولوجيات الوضعية تستطيع أن تقيّم سلوك الإنسان إذا ما فقد العقل معياره الحقيقي، وإذا ما اختل ميزانه وأصبح مجرد مجمع أفكار تحطم بعضها بعضاً وتصطدم بالواقع، فتسحق معالمه الحضارية وتخفي كل ما هو حضاري، لأن (الأنا) عندما تنتفخ بالوناتها لا يتسع لها الواقع ولا يمكن للعقل أن يلجم تطرفها، وبالتالي ينكفئ كل شيء في الحياة، وتنطفئ أنوار الحضارة، التكنولوجيا تصبح سكاكين جارحة، بدلاً من أن تكون تفاحة الفرح.
هكذا تصير العلاقة بين الإنسان والمادة الحارقة، بين الإنسان والحضارة، وتستمر العلاقة غير السوية إلى ما لا نهاية، وإلى أن يستيقظ العقل ويبدأ في جرد الخسائر الفادحة، ولعل وعسى يستطيع إصلاح ما أفسده الدهر.
فكم من حضارات سادت ثم بادت، فأين بابل وأين سومر، ثم وأين الحضارة اليونانية ثم الرومانية؟ أين الدولة الإسلامية التي امتدت شرقاً حتى غرب الصين ثم غرباً حتى الأندلس؟ كل هذه حضارات غربت عنها الشمس لأن العقل تخلى عن دوره الريادي وترك المقود للنفس الإمارة، ترك للأنا الدور المحوري في قيادة عربة الحضارة، وبالتالي آلت الأمور إلى ما آلت إليه، وصرنا نبكي على اللبن المسكوب في تراب (الأنوات) الضالعة في جريمة الهدم والتدمير.
البعض منا يدهش ويصاب بالصدمة عندما يرى بأم عينيه ما يحدث من بشاعة في القتل وما يراه من تدمير ممنهج للحضارة الإنسانية، وأنا أقول إنه لأمر طبيعي، فماذا ننتظر من عقل مأزوم بفكرة التفوق العرقي أو الأيديولوجي أو اللوني؟ ماذا يمكن أن يفعل هذا العقل مسلوب الإرادة، إلا أن يتكئ على مبرر وهمي ويجعل منه عصا موسى في مواجهة الآخر وضربه بكل ما أوتي من قوة للتخلص منه والفكاك من مزاحمته له على المكان والزمان؟
هذه قضية لا بد لنا أن نقرأها بوعي، ولا بد لنا أن نحلل تفاصيلها بعمق، لأن المضادات الحيوية التي نبتلعها لكي ننسى ما يحدث في عالمنا اليوم لا تفي بالغرض، وأن الحلول الأرضية لا تقدم حلاً وافي الشروط، وأن اللجوء إلى عوالم ما بعد الخيال الواقعي لن تعطينا مجالاً لعلاج مشاكل أصبحت ضاربة الأطناب في ذاكرة البشرية، هذه الذاكرة التي أصبحت اليوم مكباً لنفايات التاريخ، وكل منا يقول أنا على صواب والآخر على خطأ، بينما فيلسوفنا العربي العظيم ابن رشد قال: «كل الأديان صحيحة إذا عمل الإنسان بفضائلها».
هذه الحقيقة يتغافلها العقل المأزوم ويتجاوزها بمسافات واسعة، ويتوقف فقط عند محطة الأنا التي توحي له بأنه لا مجال للمفاضلة بين فكرة وأخرى، بل إن فكرة فلان هي الحقيقة الدامغة وما عداها مجرد هراء.
هذه هي خرافة العقل المأزوم، وهذه ترهاته التي يقتات عليها وينام ويصحو على معطياتها الخرافية.