الأربعاء 8 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عبدالله بن حليس.. عاشق الإبل

عبدالله بن حليس.. عاشق الإبل
30 أكتوبر 2021 00:13

إبراهيم الملا 

يا هل النّوق السلاهيبِ          سلّموا لي يوم بتجـونه
لْـ «علي» بنْدب منـاديبِ        يفتهـم للقول من بونِه
بيّحـــوا لي يا مصـاويبِ        وين لي بالوصف تطرونه
انظروا حلــو التســاليبِ         لي يديله كاسي متونــه
إن حكـــى حكْيه بترتيب        وإن تخطّر يمشي بهونه

يعدّ الشاعر عبدالله بن راشد بن حليس الكتبي «1898م - 1990م» من أشهر الشعراء الشغوفين بالإبل، والعارفين بأنواعها وسلالاتها، ولذلك تغنّى بها كثيراً في قصائده، وأفصح في شعره عن عشقه لها، وارتباطه بها، وكان من كبار ملاك إبل السباق التي تصنّف كأفضل الهجن، وكان لهذا الرباط المعنوي المكثف، ظلال وأصداء وآثار في المنتج الإبداعي لعبدالله بن حليس، وكانت أوصافه الدقيقة لها ترجماناً صادقاً لمعارف ورثها من آبائه وأجداده، ومعارف أخرى طوّرها أثناء اقتنائه لها وتعامله الملموس معها، الأمر الذي انعكس إيجابياً على طبيعة شعره، من حيث قوة التعبير، وجموح المعنى وسلاسته في آن، وكذلك من حيث القدرة على التأقلم مع الصحاري والقفار، واستعارة الأوصاف المميزة للإبل عند وضع المقارنات مع أوصاف المحبوب ومكامن حسنه وجماله.
من النماذج الواردة في قصائده حول أصناف وأوصاف الإبل، تلك التي يقول فيها: 
«قم يا نديبي فوق (صوغان)/ فوق أشقر ما ملّ راعيه
يمطي يديل السير دجران/ ولا ظلال العود بيجيه»
فمسمى صوغان يطلق على أنقى سلالات الإبل، المتميّزة بوبرها الناعم ولونها الفاتح، والمتمتّعة أيضاً بجموحها وعنفوانها في سباقات الهجن، حيثُ يصف ابن حليس الجمل «صوغان» في القصيدة بأنه نشيط «دجران» وبسبب سرعته وخفّة حركته لا تطوله ولا تقاربه ظلال الأشجار والأعواد.
وفي قصيدة أخرى له، يقول بن حليس: 
«يا نديبي فوق منسلّي/ لي مسيره شبه سحابه»
 حيث يشبّه المطيّة هنا بالسحابة التي تنسلّ وتناور في حركتها الخفيفة بين الرمال، ومن دون أن يشعر صاحبها بعثرات الطريق، وأعباء السفر.
وله بيت في هذا السياق يقول فيه:
«قم شدّ لي حمرا زهت بالمقاد/ ما كادها سير الصلف والعييلة»
فالحمرا هي من الإبل «المغاتير» والتي يميّزها لونها عن بقية الإبل، ويقول ابن حليس إن الناقة وبجانب جمالها الظاهريّ، فهي قوية أيضاً في مواجهة الطرق الوعرة ولا تبالي بالتعب والجهد البدني، كما أنها مستعدة لتنفيذ طلبات صاحبها ولا تبدي انزعاجاً أو ضيقاً في قطع الدروب الطويلة إرضاءً لمالكها. 
وفي القصيدة الواردة أعلاه يذكر راشد ابن حليس «النوق السلاهيب»، وهي النوق التي تجمع بين طول الهيئة ومتانة البنية وسرعة الحركة، ليفتتح بهذا الوصف الجامع والمتكامل، باب القصيدة وموضوعها الأساس، المتمثّل في ثيمة «الشوق» كحالة وإحالة، وكرغبة ورجاء، ذلك أن «الشوق» دونه الكثير من التضحيات المجيّرة على الصبر واللهفة والترقّب والهواجس، الأمر الذي دفعه لطلب المعونة من أصحاب النوق القوية والجريئة كي يسرعوا الخطى إلى ديار المحبوب فيبلّغوه السلام، ويعاينوا أحواله وما جرى عليه، ويخصّ صاحبه «علي» بهذه المهمة العاجلة، فهو مندوبه وكاتم أسراره، وهو القادر على إيصال فحوى مشاعره، ومقدار لهفته، وحجم توقه واشتياقه، ويشرع ابن حليس في البيت الثالث في وصف مزايا محبوبه، لتكون هذه المزايا وقوداً لصبره، وسبباً في تجاوز عزلته المكانية وغربته الوجودية.
ويستعرض ابن حليس العلامات المميزة لمحبوبته، فهي تخطف الأبصار وتسلب العقول لشدّة بياضها واكتمال حسنها، إضافة إلى جدائلها المنسدلة على أكتافها لفرط طولها وغزارتها، مؤكداً أن هذا الجمال الخارجي يزدان بالجمال الداخلي المتمثّل في الكلام المرتّب والقول المهذّب وحسن الأخلاق والتعقّل والرزانة: 
«إن حكى حكْيه بترتيبِ/ وإن تخطّر يمشي بهونه»
ويستطرد ابن حليس في الأبيات الباقية من القصيدة، وصولاً للبيت الختامي، في إيراد الأوصاف الماتعة، ذات الجرس اللفظي المحبب للمتلقي، وكأنه ينقل بذلك تصوّراته الشخصية ويجسدها في قالب شعري أنيق وحافل بالتشكيل البصري المتوائم مع تمنيات الشاعر ورغباته، وهو تشكيل متناغم أيضاً في مزجه بين الذات والموضوع، وبين المرئي والمُتخيّل، فيقول: 
«عسر ع الرمّيس وتْعيبِ/ ولي تمنّوا ما ينالونه
ونّ قلبي ونّة (الجيبِ)/ لي شحن وأهله يسوقونه
ونّة اللي عوقه صْعيبِ/ من هجرهم طالت السّونه
نور خدّه برق لمغيبِ/ وإن مشى يمشي على هونه
اكتموا بمّا بكم غيبِ/ وسرّكم عن لا تبيحونه»

أشقّاء الشعر
ولد الشاعر عبدالله بن راشد بن حليس الكتبي في منطقة الرفيعة الواقعة بين الشارقة والذيد، عام 1898م وهي منطقة - كما يشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي - كانت معبراً للمسافرين القادمين والمغادرين من الساحل إلى المنطقة الشرقية وبالعكس، حيث كانت القوافل تمرّ على هزع أو عرقوب «عشيو» الواقع على طريق الرفيعة والحويّة، مروراً بفلج المعلا والذيد.
ويضيف المزروعي أن شهرة منطقة الرفيعة أتت بسبب موقعها الاستراتيجي المهم، وبسبب كثرة أشجار الغاف بها وبشكل كثيف، وكانت من أفضل المناطق في الشتاء، وتعتبر مزاراً للكثير من أبناء الإمارات، يأتون إليها في الربيع والشتاء، يقضون الفصلين بها، نظراً لما تتمتع به من جوّ لطيفٍ ومراعٍ خضراء ومياه عذبة ورمال دافئة، كما تعدّ بئر الرفيعة أو «طوي الرفيعة» التي سميّت المنطقة باسمها من أقدم الآبار الموجودة في الإمارات الشماليّة وأشهرها، حيث وقعت هناك معركة معروفة، سُميّت باسمها، وهي «واقعة الرفيعة»، وذلك في العام 1945م.
وللشاعر عبدالله بن حليس، أخ شقيق يكبره بسنوات قليلة وهو محمد بن حليس، الذي يعدّ من كبار شعراء التغرودة في الإمارات - سوف نخصص له موضوعاً مستقلاً في هذه السلسلة من البصمات الشعرية، يتضمن سيرته الإبداعية والحياتية، نظراً للزخم التوثيقي في تغاريده، ولامتداد جذوره وإسهاماته في أرض القصيدة النبطية بالمكان - وعودة إلى شاعرنا عبدالله بن حليس، فإن معايشته مع أهله وإخوانه لأجواء منطقة «الرفيعة» الأثيرة ساهمت في تعلقه بالشعر وقرضه له، خصوصاً ما يتعلق بقصائد الردح والونّة، وتميّزه في هذين الأسلوبيين الشعريين، على عكس شقيقه محمد بن حليس، الذي كان متميزاً بقصائد التغرودة - كما أسلفنا.
كان الشاعر عبدالله بن حليس يتنقلّ مع أهله في مواسم الأمطار، بحثاً عن الماء والكلأ، فيذهبون إلى الموارد العذبة والمراعي، مثل: طوي حسين وتاهل، ومهذّب والمرّة والصجعة، أو ينتقلون بعيداً إلى المناطق الشمالية مثل: سيح الجري، والمزرع وغيرها من المناطق الرعوية.
ومثل إخوانه، عمل ابن حليس أثناء يفاعته في كدّ الإبل التي كانوا يملكونها، وكان ينقل عليها مع إخوانه وبني عمومته الحطب والفحم والثمام إلى المناطق الساحلية لبيعها، وفي الصيف كانوا ينقلون المصطافين على ظهور إبلهم من المدن والواحات الزراعية الداخلية في الإمارات إلى الباطنة في سلطنة عمان، بما كان يسمّى «الكريّات».
ويذكر المزروعي نقلاً عن الراوي: السيد خادم بن عيد بن حليس، وهو ابن عمّ شاعرنا، أن أكثر القصائد الغزلية لعبدالله بن حليس كانت نتاجاً لهذه الفترة المتعلقة بنقل المصطافين، والتي يكثر فيها التغزّل والإعجاب ونظم القصائد المعبّرة عن لحظات التعارف العفوية، وما تثيره من خواطر نابضة، وأحاسيس مبهجة، مرتبطة بالدهشة والاكتشاف والمحبّة المندلعة من قلوب غضّة تتفتح لتوّها على الجمال الأنثوي المغلّف بالخجل والحياء، ويستدعي الراوي هنا حادثة وقعت للشاعر عبدالله بن حليس عندما كان ينقل المصطافين على إبله، وذلك عندما اتفق بن حليس مع أناس ينقلهم أن ينتظروه حتى يأخذهم إلى مكان مقيظهم، وكان شاعرنا معجباً بهم، وفي يوم الموعد، لم يجد لهم أثراً، حيث جاء من نقلهم بدلاً عنه على ظهور إبله، وكان يسمّى «حمد»، فقال ابن حليس قصيدة في تلك الحادثة، تمنى فيها لو أن «حمد» قد ضيّع إبله، ولم ينقل من كان قلبه يهفو لهم، ويتمنى صحبتهم، فقال:
«ليته (حمد) ضيّع ركابه/ اخلف ولا تمّ المياعيد
شلّ الذي زاهي شبابه/ من بو نهيدات مجاعيد»
ويشير الدكتور راشد المزروعي إلى شهرة عبدالله بن حليس في قول الشعر الهزليّ بكثرة، حيث لا تزال الكثير من أشعاره من هذا النوع متداولة على ألسنة الرواة، وبجانب هذه الأشعار الهزلية، توجد لديه أشعار جزلة معروفة، وله قصائد كثيرة أيضاً في المشاكاة والمدح، وقصائد في الإبل وذكر أوصافها وأنواعها وطقوس التعامل معها.
كما يحتوي شعره على الكثير من المصطلحات التراثية والشعبية والبدوية، وهذا دليل على تأصّله في حياة البداوة والبر، وتأثره بمناخاتها الوجدانية والبصرية، كما أن مسميات الأمكنة والمناطق الجغرافية، احتلّت مساحة واسعة في شعره، فلا تخلو معظم قصائده من ذكر الموارد المائية، وأسماء الآبار التي كان يعيش عليها أهل البادية، وكانت أيضاً مورداً لحلالهم وإبلهم.
ويصنف المزروعي عبدالله بن حليس كأحد شعراء المرحلة الحديثة في المشهد الشعري النبطي، نظره لكونه قد عاش خلال القرن المنصرم والذي مثّلت عقوده الأربعة الأخيرة بداية الانفتاح والتطور والحداثة، خصوصاً بعد قيام دولة الاتحاد، وبذلك يعدّ شاعراً مخضرماً عاصر فترتين مهمتين في تاريخ الدولة، وشهد أحداثهما وتحولاتهما وكان أثرهما واضحاً في ثنايا شعره وطبيعة نتاجه ونوعية قصائده، وكانت تجربته الشعرية الثريّة مرآة لسيرته الطويلة والممتدة في ثنائية الزمان والمكان، والبدايات والنهايات، وفترة الطفرة وما قبلها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©