الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

تشكيل بلا فن خالص

تشكيل بلا فن خالص
4 يونيو 2020 00:07

تعرف ظاهرة الفنون التشكيلية المعاصرة انتشاراً واسعاً بين الأوساط الفنية، لكنها تثير في الآن ذاته سجالاً كبيراً بين النقاد والمتتبعين، فشعار التحرر من الشكل والمضمون قاد هذا المسعى إلى أزمة الفنون المعاصرة، وإلى تحول العمل الفني إلى مجرد نوع من اللعب الفارغ بالأشكال. وهكذا، فقد الفن مكانته في المجتمع، وابتعد عن التعبير عن القضايا الإنسانية الأساسية. يكفي اليوم أن نلطخ بعض الأشياء بالقليل من الصباغات، ونضعها داخل معرض، حتى تتحول إلى منجز فني. لقد أدى الفن المعاصر إلى الانتقال، كما ترى نتالي هاينيش، نحو باراديغم جديد للفن يختلف تماماً عن باراديغم الفن الحديث. كما قاد هذا التوجه الجديد إلى دخول الفن في مجموعة من التخرصات، أو كما تسميها أود دوكيروس «خداع الفن»، كما يحمل عنوان أحد كتبها L›imposture de l›art contemporain هذه الأزمة يمكن التأريخ لها تقريباً منذ بداية الخمسينيات، أي بعيد الحرب العالمية الثانية، مع العلم أن هناك ما يمهد لها في مرحلة سابقة، خصوصاً مع بعض أعمال مارسيل دوشامب. يهمنا في هذا المقال الكشف عن عينة من أهم هذه التخرصات التي تقوم عليها ظاهرة الفن المعاصر، وتوضيح كيف قادت إلى الضمور الذي يعيشه حالياً الإبداع الفني التشكيلي.

كذبة الفن الخالص
هل لا يزال بإمكاننا أن نتحدث عن المفكرين الأحرار، كما كان الأمر زمن عصر الأنوار؟ وهل الفكر الإنساني والثقافة العالمية التي تروج اليوم حول العالم، نزيهة وخالية من أي دوافع أو مصالح سياسية ومادية؟ هذه الأسئلة هي ما تجيبنا عنه فرانسيس ستونور سونديرز في كتابها:«الحرب الباردة الثقافية»، الصادر بالإنجليزية سنة 1999. قامت الكاتبة بدراسة مجموعة من الوثائق والمستندات، التي تكشف عن تورط المخابرات الأميركية إبان الحرب الباردة، بالتحكم في المثقفين والمفكرين في كل بقاع العالم، من أجل توجيه أفكارهم وبلورة مواقفهم. حيث كانت تتحكم في الأنتليجينسيا الأوروبية، بل تتحكم حتى في خلق الاتجاهات الأدبية والفنية التي تتميز بطابعها المجرد وعدم انغراسها في المجتمع. وهكذا، نكتشف كيف أن الإيديولوجيا الليبرالية تخترق أشهر الاتجاهات الفنية، ألا وهو الاتجاه التجريدي الذي يدعي أنه يشتغل ضمن نظام دلالي محايد عن الواقع، في حين أنه لا يعمل سوى على خدمة الإيديولوجيا الليبرالية والمصالح البورجوازية.
وبعد موجة الفن التجريدي ـ التي لعبت دورها خلال الحرب الباردة ـ يمكننا أن نقول بأن هذا الموقف الذي يعمل على محو وتهميش الثقافة الجادة، لم يتوقف عمله عند حدود الحرب الباردة، بل هو لا يزال يعمل إلى يومنا مع اتجاه آخر وهو الفن المعاصر. إن المنهجية واضحة، فهي تقوم على تفريغ الفن من كل مضمون وإلغاء كلي للمعنى، بهدف تسطيح الوعي وخلق الكائن البشري المدجن. وإذا كانت هذه الاتجاهات الفنية تريد أن تقدم نفسها على أنها مثالية، وتخدم من أجل بلورة الفن الخالص، فإن التنقيب في تاريخها الخفي وتفكيك جمالياتها ـ هذا ما إذا كانت تمتلك أصلاً حساً جمالياً ـ من شأنه أن يكشف لنا الإيديولوجيا الكامنة التي تنطوي عليها.

  • جيف كونز أنان مع أحد أعماله


نهاية المعنى
بعد خدعة «الفن الخالص» يأتي التخرص الثاني وهو نهاية المضمون وزوال المعنى. إن هذا هو ما تكشفه، على سبيل المثال لا الحصر، كريستين سورجين في كتابها «سراب الفن المعاصر»، حيث أصبحت الأعمال الفنية الفارغة من المعنى هي التي تحظى بالتقدير، بينما الأعمال التي يتعب عليها أصحابها، يتم تهميشها بدعوى عدم مسايرتها للعصر. وترى الكاتبة بأن هذا الانشقاق بدأ مع مارسيل دوشامب، الذي بدأ يحول أشياء عادية من الاستعمال اليومي، كي تصبح أعمالاً فنية؛ أي ما يصطلح عليه بـ ready made مثل المبولة الشهيرة L’Urinoir وإذا استغرب أحدهم وقال: كيف يمكن أن تصبح هذه القطعة المبتذلة عملاً فنياً؟ ! فإن مارسيل دوشامب يجيبه قائلاً:«الفن هو ما يقول الفنان إنه فن».
هكذا، ابتعدنا عن الاتجاهات الكبيرة في الفن الحديث، مثل السوريالية والتكعيبية والانطباعية وغيرها، التي وإن اختلفت عن الفن الكلاسيكي، فإنها ظلت وفية للرسالة العظيمة للفن في التعبير عن تمزقات الإنسان وآلامه، في حين قطعت مبولة دوشامب مع كل ما سبق.
إن واحداً من الأمثلة التي يمكن أن نقدمها على نهاية المعنى، والفراغ الكلي للعمل الفني من أي مضمون حقيقي، أعمال الفنان الأميركي جيف كونز jeff koons المثير للجدل، والتي تحوز على أموال طائلة، ويحظى صاحبها بتقدير كبير، حيث ينظر له كآخر فناني البوب آرت، في حين أن أعماله لا تتعدى تلك البالونات المعقوفة على بعضها والتي يلعب بها الأطفال عادة، لكن جيف كونز يعيد إنشاءها بأحجام كبيرة من الفولاذ ويطليها بمواد عاكسة للضوء. بيعت إحدى هذه البالونات سنة 2008 { زهرة البالون القرمزي } بأزيد من 25 مليون دولار. إن هذا واحد فقط من بين المئات من الفنانين الذين يحتلون اليوم ساحة الفن، ويتم التطبيل لأعمالهم وكأنها منجزات غير مسبوقة، الشيء الذي يعكس تفاهة المجتمع المعاصر الذي يدفع للواجهة بفنان يعترف هو ذاته، كما صرح بذلك، أن أعماله لا تنطوي على أي معنى ولا تحمل أيه رسالة، وأن الفن يجب أن لا يضطلع بمهمة شجب الظلم الموجود في الحياة.

نهاية مفهوم الجمال
وهكذا، انتهى كذلك مفهوم الجمال، كأحد أهم المفاهيم الأساسية التي قام عليها تاريخ الفن. أصبح الجمال، كما قال أحدهم، تابو لا يستطيع أحد أن يتكلم فيه. ورغم أن الفن الحديث قام بتطوير مفهوم الجمال الكلاسيكي، فإنه حافظ على مفهوم موسع للجمال. بينما الفن المعاصر عمل على إلغائه كلية. وبنهاية مفهوم الجمال بدأ الفن المعاصر يبحث عما يعوضه وكان هذا ـ كما يجمع أغلب النقاد ـ هو المفهوم الجديد للانتهاك la transgression حيث أصبحت المهمة الأساسية التي يبحث عنها الفنانون، هي تجاوز المألوف وانتهاك الممنوعات، كيفما كان نوعها. فسواء في الأدب أو الفن أو الموسيقى بدا أن مهمة الفن بالدرجة الأولى هي العمل على تحطيم القيم وانتهاك الممنوعات. ترى أود دوكيروس أنه مع الفن المعاصر: «أصبح كل شيء فناً، باستثناء الفن»: ص 37 وتضيف الكاتبة بأن هذا النوع من الفن، أصبح من دون هوية تميزه ولا أي قيمة استطيقية. لقد أذعنت هذه التجارب للنسق الرأسمالي، حيث السماسرة وصالات العروض ودور المزادات العلنية، هم من يحددون قيمة العمل ويعتبرون أنه كذلك عمل فني.
نفهم إذن، في نظر النقاد، لماذا أصبحت نيويورك اليوم هي قبلة كل الفنانين التشكيليين في العالم، إذ هنا يمكن للعمل الفني أن يتم تداوله كصفقة تجارية، وكمجال للاستثمار على حساب الخلق والإبداع. فبعد أن تم تحويل المركز من باريس إلى نيويورك، أصبحت القيمة الوحيدة المحددة للفن، هي المال مما جعله يفك الارتباط مع كل المعايير الجمالية. وهكذا، تقوم الباحثة في كتابها بتحقيق اقتصادي سياسي، تبين فيه كيف تحول الفنان إلى رجل أعمال، والعمل الفني إلى منتج مالي.

  • مبولة دوشامب


نهاية الأثر الفني
مع ارتفاع وثيرة الانتهاك بدأنا نوغل في مرحلة جديدة لتاريخ الفن، يمكن أن نطلق عليها اللافن أو نقيض الفن، حيث ينتهي العمل نحو الفراغ والانمحاء الكلي للأثر. تم ابتكار الكثير من الحيل لتحقيق هذا الأمر، مثلاً عبر إزالة الإطار، أو الكيتش والكولاج، أو اعتماد أدوات الحياة اليومية، أو الاعتماد على اللون الأحادي le monochrome كما فعل الفرنسي إيف كلاين الذي قام بصباغة اللوحات بالأزرق ويعتبرها عملاً فنياً، وغيرها من التقنيات. لم يعد بإمكان هذا الفن أن ينتج لنا أعمالاً عظيمة، فليس المهم هو قيمة الأثر الفني، بل فقط ما يخلقه العمل من ضجة إعلامية ونقاشات بين النقاد والمتتبعين.
إن هذا هو ما تابعناه، مثلاً مع الفنان البولوني رومان أوبالكا Roman Opałka الذي بدأ منذ 1965 يرسم شيئا واحد وهو عبارة عن سلسلة أرقام يخطها بالبيض فوق قماش أسود، وفي كل مرة يضيف تدريجيا 1% بداية من الرقم 1 وإلى غاية اللانهاية، إلى أن أصبحت اللوحة بكاملها بيضاء تقريبا. كان آخر رقم كتبه قبل موته تجاوز الخمسة ملايين 5607249. أراد أوبالكا كما يزعم في ذلك محاولة رسم أثر الزمن ومروره على وجهه.

تشكيل بلا مضمون!
وإذن، فنقد الفن المعاصر ليس المقصود من ورائه، الدعوة إلى التشبث بالأشكال المتناسقة والثابتة للجماليات الكلاسيكية، كما عبرت عن نفسها خلال عصر النهضة. ولا أيضاً المطالبة بتحويل الفن إلى برنامج أيديولوجي يعمل حسب الوصية الأثيرة للانعكاس الآلي والمباشر للواقع، ورفض الخيال والطابع اللعبي للخلق الفني. فالنقد المعروض، هاهنا، غير محكوم بما سماه مارك خيمينز:«نوستالجيا القيم التقليدية» ما الجمالية ص 403. بل المقصود بكل بساطة التحرر من تسليع الفن، وهي العملية التي تعصف بجوهره بعيداً عن أي قيم إنسانية أو جمالية. إن هذا هو ما حول التشكيل المعاصر إلى مجرد عملية تزويقية أو ترميقات bricolages ضعيفة الدلالة وفارغة من أي مضمون حقيقي. يقول ألان باديو:«إن فن اليوم يجب عليه أن يكون كذلك متماسكاً كبرهان رياضي. ومدهشاً كحلول الليل، وعالياًً مثل نجمة». ثم يضيف شارحاً هذا الكلام في لقاء حواري مصور، إن هذه الجملة تتضمن ثلاث صور، صورة البرهان، وصورة حلول الظلام، وصورة النجمة، وبالتالي، فمهمة الفن المعاصر هي العثور على النظام الذي يجمع المكونات الثلاثة معاً. بمعنى أن الفن عليه أن يهتم بالتناسق الاستطيقي، والمفاجأة التي يتضمنها الخيال، كما عليه أيضاً أن يكون خالداً، وليس فقط مجرد عمل مرتبط باليومي واللحظة الزائلة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©