الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لفائف البحر الميّت.. ما الذي أضافته إلى تاريخ الأديان؟

لفائف البحر الميّت.. ما الذي أضافته إلى تاريخ الأديان؟
4 يونيو 2020 00:07

رغم انقضاء ما يربو على سبعة عقود منذ اكتشاف لفائف البحر الميّت، ذات الصلة بالتراث الديني القديم في منطقة فلسطين، فهي لا تزال مثار تساؤلات، حتى وإن بات فحوى تلك المخطوطات معروفاً في أوساط العلماء والمهتمّين بالتاريخ القديم. فحين اكتشف جمعة محمّد خليل، رفقة قريبه محمّد أحمد الحامد، الملقّب بالذيب، تلك اللفائف في خربة قمران(عمران)، الواقعة غرب البحر الميت، خلال العام 1947 على ما يُرجَّح، وما تواصَلَ لاحقاً إلى غاية العام 1956، ما كان يدور بخلد الصبيّـيْـن حينها أنّهاستمثّل ثروة فريدة لا تُقَدّر بثمن، وإن فرّطا فيها لأحد تجّار التحف في بيت لحم بدراهم معدودة، وكانا فيها من الزاهدين.

تاريخياً، تعود اللّفائف إلى الفترة المتراوِحة بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، كما بيـّن ذلك الفحص بالكربون 14. وهي فترة حبلى بالاضطرابات الدينية في منطقة فلسطين وما جاورها، عرفت في مرحلة لاحقة (سنة 73م) سقوط قلعة مسادا (مسعدة) على يد الرومان، عنوان الانتحار الجماعي اليهودي. وقد حوت اللّفائف، من جملة ما حوت، مقتطفات من الأسفار القانونية تعود للنبيّين حزقيال وحبقوق، تبشّر بأورشليم الجديدة، فضلاً عن مجموعة من الأسفار البسيدوغرافية، أي المنحولة، والأسفار الأبوكريفية، أي الخفيّة، التي لم تحظَ بالاعتراف في الأوساط اليهودية ولم تُدرَج ضمن المتن الشرعيّ، وهي نصوص على صلة بالترغيب والترهيب، وبمسلك الحكمة، وخاصيات المعبد، ومواقيت الطقوس والأعياد والأسرار. كما نجد في تلك اللفائف نصوصاً تتعلّق بتعاليم النِّحلة، بما يشبه مدوَّنة السلوك الداخلية. هذا وقد وردت تلك اللّفائف بلغات متعدّدة، فمنها ما هو مدوَّن بالعبرية القديمة، ومنها ما هو مدوَّن بالعبرية الحديثة، بالنسبة إلى ذلك العصر، وكذلك باليونانية، والآرامية، والنبطية. وقد كُتبت النصوص على ورق البردي وجلد الحيوان، ولم يُدوَّن سوى نص وحيد على النحاس، وهي اللفافة الواردة من المغارة الثالثة، التي لا تزال في حوزة قسم العاديات بعمّان. وطول اللفافة متران وثلاثون سم، وتحوي مفتاح أسرار الجماعة، وإن لم يتسنّ، حتى الراهن، فكّ طلاسمها بما تشير إليه من مواقع وذخائر وأسرار.

مراجَعات جذرية
والسؤال المطروح: ما الذي أضافته اللّفائف بعد عمليات الترميم والتأويل إلى تاريخ الأديان؟ ما تبوح به اللّفائف أنّ متن «التناك»، أي التوراة العبرية، لم يعرف حتى ذلك العهد الاستقرار على هيئة محصورة. ولذلك نعرف إلى اليوم تبايناً في أعداد الأسفار القانونية، بين اليهودية، والمسيحية الكاثوليكية، والمسيحية البروتستانتية. حيث تبيِّـنُ اللفائفُ وضعَ الكتاب المقدس العبري قبل الانتهاء إلى حالة معيارية «قانونية». ومن ثَمَّ ظهرَ التساؤل، هل كان العهد القديم، بمفهوم السيد المسيح أو الرسول بولس، على شاكلته المعروفة اليوم؟ وهل أنّ «التناك» في نصّها الأصلي مدَوَّنة بلغتين: العبرية والآرامية؟ فقبل العثور على لفائف البحر الميت، كان المؤرخون يتوقّفون في دراسة مخطوطات الكتاب المقدّس عند «بردية ناش»، التي تعود إلى القرن الأول والثاني قبل الميلاد، بوصفها المخطوطة الوحيدة المتوفّرة، حتى وإن لم تكن «بردية ناش» نصّاً توراتيّاً وإنما أنطولوجيا مستوحاة تفاصيلها من سفريْ الخروج والتثنية. وأمّا ما هو معتمَد من التوراة، في الترجمات الحديثة، فهو يعود إلى النص المَصُوريتي المنجَز منذ ألف سنة تقريباً، ومن هذا الباب جاءت فرادة لفائف قمران.
ومن جانب آخر، استلهم البحث الأثري في فلسطين، في مرحلة أولى، ما تفصح به التوراة، وتحديداً مرويّاتها حول أريحا ومجيدو (تل المتسلم). ولكن بفضل لفائف قمران، دبّ تحوّل منهجيٌّ في أوساط الباحثين: ارتأى شقٌّ من الآثاريين والمؤرّخين أنّ البحث العلمي، ينبغي أن يتخلّص من تلك المرجعية القداسية بوصف تاريخ المنطقة مجالاً مستقلّاً عمّا ترويه التوراة.

خلال العقود الماضية، أي قبل نشر المخطوطات ورفع الاحتكار عنها، مثّلت اللّفائف إحدى الأيقونات في مجال البحث التاريخي. ولعلّ من العوامل التي أسهمت في خلق تلك الهالة، كما يوضّح الباحث تيموثي ليم في مؤلَّف حديث الصدور «مدخل إلى لفائف البحر الميت» (منشورات كويرينيانا، إيطاليا 2019)، الحضور «الإيروتيكي» للّفائف في وسائل الإعلام، والجدل بشأن من يحقّ لهم التعاطي مع تلك الوثائق. فقد بقيت اللّفائف، البالغ عددها بين 800 و900 قطعة، حكراً على مجموعة من العلماء دون غيرهم على مدى عقود، إلى أن تمّ نشرها للعموم في الشبكة العنكبوتية، وممّا فاقَم ذلك الطابع الأسطوري حول الوثائق رواج نظرية المؤامَرة التي اختلقها الباحث جون أليغرو، بشأن ما قد يهدّد العقائد المسيحية بنشر تلك الوثائق، والجدل المتواصل حول من يملك الحقوق بعد أن باتت أجزاء منها موزَّعة بين عمّان وباريس وتورنتو، ولدى بعض أصحاب مجموعات التحف الخاصة، ناهيك عن وجود الجزء الأكبر منها في إسرائيل. نشير أنّ اللّفائف قد بقيت مودعةً في المتحف الأثري في القدس، التابع للأردن، إلى ما قبل تاريخ 1966، ولكن بعد حرب 67 تغير كل شيء، على إثر سقوط المتحف بما يحوي في أيدي إسرائيل، إلى أن شنّت «مجلة الآثار التوراتية» (Biblical Archaeology Review) حملة بغرض «تحرير المخطوطات» وإشاعتها بين الباحثين. وأسهمت كل تلك العوامل في جعل اللفائف أيقونة ثقافية ذات طابع عالمي.

من دوّنَ تلك المخطوطات؟
حاولت الدعاية الإسرائيلية، في البدء، الربط بين تاريخ اكتشاف اللفائف (1947) وتأسيس دولة إسرائيل، وكأنّ اللّفائف شهادة ميلاد رمزية لإسرائيل وعودة بالشعب العبري إلى جذوره. حتى أنّ المتحف الذي حوى اللّفائف وقع تشييده على هيئة غطاء جرّة من الجرار التي عُثر فيها على اللفائف، في إيحاء رمزي للحدث الفارق. ولكن وبعيداً عن التوظيف السياسي للكشوفات، ما الذي يقوله البحث العلمي عن أصحاب اللفائف الحقيقيين؟ من خلال قراءة متأنّية لفحوى النصوص توصّلَ العلماء إلى فرضية أنّ تلك المكتبة تعود إلى جماعة من النسّاك سلكوا مسلكاً في الدين، عماده الطهر والعفة والعزوبة، وعاشوا حياة جماعية يميّزها الزهد والمساواة بما خالف السياق العام السائد في معبد أورشليم. ووَجَد العلماء شبهاً لتلك النِّحلة مع جماعة الأسينيين، البالغ عددهم قرابة أربعة آلاف، حسب بعض التقديرات، وهي نِحْلة ورد ذكرها لدى طائفة من المؤرّخين، مثل فيلون السكندري (20 ق.م- 50م) وبلينيوس الأكبر (23-79م) ويوسيفوس فلافيوس (37-100م)، وكان يُطلَق عليهم الأسينيون. وقد شايع هذا الرأي الراهب الفرنسي رولان دي فو، أحد الباحثين المرموقين في خربة عمران ومدير المعهد الكتابي الفرنسي بالقدس الشرقية سابقاً، فقد ذهب إلى أنّ تلك الفئة هم جماعة من المتمرّدين الأسينيين راوَدهم الاستقلال عن روما.
وبات الأسينيون الاسمَ الرائج لتلك الجماعة، مع أنّهم لم يطلقوا على أنفسهم هذه التسمية، ولم يرد أثرٌ لذلك في اللفائف، ولعلّ الأقرب للصواب أن يُسمّوا بالقمرانيين، نسبة إلى المكان الذي عُثر فيه على البقايا. فهذه النِّحْلة، وبخلاف الصادوقيين والفرّيسيين والكَتَبة والناموسيّين، كانت من النِّحل المعتزِلة، غير المندمجة في المجتمع اليهودي وغير الراضية بهيمنة الرومان في آن، وهي أقرب إلى صوت الصارخ في البرية، يوحنّا المعمدان، مسلَكاً ومذهَباً. فقد كانت الجماعة مدرِكة لحالة التوتّر الحاصلة بين روما والمجتمع اليهودي، وكانت تخشى الهجوم الخارجي، ما دفعها إلى حماية مقدساتها من نصوص في مغارات وداخل جرار، فضلاً عن تضمينها مفتاحاً سرّياً لمخزوناتها القيّمة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©