الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

السّلام.. المتملّص على الدّوام

السّلام.. المتملّص على الدّوام
27 أغسطس 2020 00:24

بقلم: ستيلاّ جرفاس
ترجمة: أحمد حميدة

وهو يبحث عن خافية السرّ في أدب مخطّطات السّلاممن العصر الوسيط إلى أيّامنا هذه، قام برونو أرشيدياكونو بتصنيف بالغ الوجاهة لتصوّرات السّلم التي اهتدى بها البشر من أجل إنهاء أسباب التّنازع والتّقاتل بينهم.
وجاء هذا الكتاب المرجعيّ، «السّلام المتملّص على الدّوام»، ليعكس بشكل أساسيّ مفهوم السّلام في مخيال الإنسان الغربيّ. ولاشكّ في أنّ كلّ شيء يتطوّرعبر التّاريخ، بما في ذلك أسلوب كتابة التّاريخذاته. واللاّفت عند استقراء أحداث ذلك التّاريخ، أنّ دعاة «الأمم العظيمة» ما انفكّوا يضفون على مفهوم السّلام ذاك.. بعداً حربيّاً عدوانيّاً، طفحت به ولا تزال كتب التّاريخ عندنا. فلطالما كنّا في طفولتنا شهود عيان لنزعة تمجيد حروب الماضي وتعظيم صانعيها من قادة قتلة وجنرالات سفّاحين.

وفي هذا المقام، لا يشذّ الصّلح الفرنسيّ-الألماني عن ذلك، غير أنّ النّظرة الخاطفة لما خلّفه ذلك الصّلح من آثار أدبيّة، سوف يبيّن أنّه على خلفيّة البيارق الخفّاقة والفرق الموسيقيّة المعربدة والاستعراضات العسكريّة المدوّية، كان الاعتداد الرّجولي بالحرب، لا يني يحتلّ المكانة الأرفع في مخيال كثير من النّاس.
وبالتّالي، تظلّ عبادة «المرّيخ»، إله الحرب، تنتظم إلى غاية اليوم العنف المنظّم للدّول الغربيّة، وتجد لها، دونما عناء، أنصاراً كثراً في هذا الجانب أو ذاك.
فهل من معنى حقيقيّ، والحال تلك، لتأليف كتاب عن السّلام العالميّ، ذلك الوجه البئيس للتّاريخ؟ لئن ظلّت فكرة السّلام منتهكة بصورة دائمة، وبعنوان الذّود عن «حرمة الدّولة»، فإنّها تحتفظ رغم ذلك بغايات نبيلة تضفي عليها بعداً بطوليّاً، رغم ما اعتراها ويعتريها من عجز مزمن.. بيّن.
وما انفكّت هذه الفكرة تنبعث من جديد في أعقاب الحروب الكبرى، لترافق بصورة مبهمة شعوب أوروبا الغربيّة على امتداد تاريخها الحديث. بل إنّها كانت فاصلاً قصيراً من المجد يوم سقوط جدار برلين، وحين أصبحت مقولة السّلام حجر الزّاوية في بناء الوحدة الأوروبيّة التي سوف تشمل بمرور الأيّام 27 عضواً.
وفي هذا الخصوص، يقدّم لنا كتاب برونو أرشيديا كونو، المؤرّخ المختصّ في العلاقات الدّوليّة، إضاءة خاصّة لهذا الموضوع، عبر استكشاف دقيق لمراحل تشكّل فكرة السّلام بين الدّول.

 السّلام في الأدب السّياسي
وكان من الضّروري، وحتّى تتوفّق الشّعوب يوماً ما في إعلان حالة السّلام بينها، أن تبرعم تلك الفكرة في عقول أولئك الذين يشتركون على اختلافهم، في توقهم إلى عالم أفضل، عالم يتوارى فيه شبح الحرب، وتحظى فيه الشّعوب بالأمن.
مستلهماً مخطّطات السّلام في الأدب السّياسي (ما يقارب المائة وثيقة)، سوف يمنحنا الكاتب خلاصة لتلك المخطّطات، مشدّداً في ذات الوقت على الأفكار وعلى الأفراد الذين كانوا وراءها، وبالعودة إلى أصول تصوّراتهم الفكريّة، أثار جانباً مهمّاِ من التّاريخ، من العصر الوسيط إلى القرن العشرين.
وفي هذا السّياق، ينبغي لنا أن نتحاشى النّظر إلى تلك المخطّطات بوصفها محض أطروحات نظريّة، لأنّ مصادر بحث الكاتب انطلقت من التّاريخ الاصطلاحي للعلاقات الدّوليّة، لتلامس في ذات الوقت فلسفة القانون والتّاريخ العام والعلوم السّياسيّة.
من الملكيّة الكونيّة إلى الأمم المتّحدة استمراريّة وانقطاع لقد أسّس برونو أرشيديا كونو بحثه على سؤال جوهريّ: كيف تصوّر البشر عبر التّاريخ الحديث سبل إحلال السّلام على الأرض؟ وفي سياق الردّ على ذلك سعى إلى استنطاق طائفة من النّصوص القديمة والحديثة، التي ينطلق جميعها من فرضيّة اقتران السّلام بإرادة بنائه وإحلاله بين البشر، وفي الاعتقاد بأنّه لا تحقّق لذاك البناء إلاّ عبر «إصلاح جذريّ لنظام العلاقات الدّوليّة». ومن ثمّة كان السّؤال الثّاني هو: كيف لنا أن نتصوّر بصورة عمليّة تحقّق ذلك السّلام؟ وأيّ صيغ تنظيميّة مثلى يمكن لها أن تهيّئ لذلك وتساهم في «ترشيد الفوضى الدّوليّة». وقد تحاشى الكاتب منذ البداية تصوّرين تاريخيين راسخين لدى الذّاهلين عن حقيقة السّلام: يتناول الأوّل بصورة مستقلّة كلّ مخطّطات السّلام، ويذهب إلى أنّ تلك المخطّطات تتنوّع بتنوّع واضعيها، فيما يذهب التصوّر الثّاني إلى أنّ تلك المخطّطات تنتظم وفق تطوّر خطّي باتّجاه نموذج أمثل، كالصّيغة الاتّحاديّة الفدراليّة.
والحال، أنّ حقيقة السّلام تتموضع بين هذين التصوّرين. وفي هذا الخصوص يقترح علينا أرشيديا كونو تصنيف تلك المخطّطات إلى خمسة نماذج مثلى، وخصّ كلاً منها بفصل في كتابه.

نماذج مثلى
وفي ما يلي إطلالة على تلك النّماذج:
النّموذج الأول: يهمّ «السّلام المهيمن»، الذي يشكّل أقدم صيغة للسّلام في العصر الوسيط، وينادي ببناء نظام اجتماعيّ تشرف عليه سلطة عليا، يرأسها إمّا البابا الرّوماني أو الإمبراطور الرّوماني الجرماني، وأحياناً ما يتولّى الاثنان تلك المهمّة.
وتمتدّ تلك السّلطة إلى كلّ الملوك وأتباعهم، في إطار منظومة تشبه «الملكيّة الكونيّة». وقد ارتكزت هذه الملكيّة على فكرة تعود جذورها إلى القدّيس أغوستينوس، وتقرّ بضرورة إرساء نظام مجتمعيّ هرميّ كونيّ، لا وجود فيه للسلام من دون نظام، ولا يستقيم فيه نظام المجتمع بلا تراتبيّة.
ولذا، كان ينظر إلى الملك على أنّه أفضل ضامن للسّلام وحرمة القانون. وبالعودة إلى كُتّاب قروسطيّين أمثال دانتي وإيراسم ولايبنيز، استعرض الكاتب المدافعين كما المناوئين لتلك الصّيغة المهيمنة للسّلام التي كان يروق لشارل كانت، في القرن السّادس عشر، الادعاء بأنّه أحد رموزها(...).
النّموذج الثّاني: تعود جذوره إلى عصر النّهضة، وتحديداً إلى أدباء فلورنسيّين مثل مكيافللي، وقد تأسّس على مفهوم «سلام التّوازن»، الذي يقوم على وجود مجموعة دول مستقلّة، قد تتحالف بصورة ظرفيّة لتأمين السّلام أو مواجهة أيّة نزعة للهيمنة.
وقد ظهر هذا المفهوم في القرن السّابع عشر، في إطار أوروبا منشطرة إلى قطبين، وخاضعة لسلطة القوّتين الأعظم يومذاك، أي الأسر النّمساويّة والأسر الفرنسيّة.
وبانحطاط الدّولة الإسبانيّة في القرن الثّامن عشر، وفي غياب دولة مهيمنة في أوروبا، سوف يغدو النّظام السّياسي حينها.. متعدّد الأقطاب(...)
النّموذج الثّالث: برز خلال القرن الثّامن عشر وتبلور خلاله مفهوم للسّلام مناهض للهيمنة وللتّوازن، بالنّظر إلى أنّهما تسبّبا قبل ذلك في حروب مزمنة، معلنة وغير معلنة.
وتميّز ذلك المفهوم بإحلال ما يسمّيه الكاتب «بالسّلام الاتّحادي»، الذي تحظى فيه كلّ الدّول باستقلاليّتها المطلقة، وتسعى فيه هذه الأخيرة بصورة إراديّة إلى بناء سلطة عليا قادرة على إحلال السّلام وحمايته.
وفي نفس الاتجاه طوّر روسّو فكرة حلف فدراليّ شبيه بعقد اجتماعيّ يكون كونيّاً، ويقيم سلطة عليا ضامنة للسّلام.(...)
النّموذج الرّابع: بكتابه «نحو سلام دائم»، أدخل إيمّانوال كانط (1795) فكرة سلام كنفدراليّ، سلام يذود عن حريّة الأمم، وتتمّ حمايته بإرادة دول تكون حريصة على احترام القانون الذي يوحّد بينها، ويضمن الحريّة المدنيّة للشّعوب.
وستكون التّرجمة العمليّة لهذه الفكرة فيما عرف بـ«سلام القانون الدّولي» الذي سيتجسّم لاحقاً في «عصبة الأمم» سنة 1919.
النّموذج الخامس: تشكّل في بداية القرن التّاسع عشر، بُعيْد انتهاء المغامرة النّابوليونيّة، ويعرف بـ«مجلس المديرين»، الذي يتولّى فيه عدد قليل من السّلط الحاكمة ضمان سير نظام تعاون بين الدّول.
وقد اقترحه الإمبراطور النّمساوي ماترنيخ سنه 1818 ليكون أساس نظام عرف بـ«الحلف الرّباعيّ»، حلف سوف ينعقد بين إنجلترا، روسيا، النّمسا وبروسّيا، وذلك قبل أن يشمل فرنسا في عهد لويس الثّامن عشر.
ويتعلّق الأمر هنا بنموذج أوليغارشي للسّلام (حكم أقليّة من الدّول)، مؤسّس على اتّفاقيّة تعاقد، لا بين كلّ الدّول، وإنّما بين قوى عظمى سوف تفرض السّلم على جميع الدّول الأخرى في العالم.
وسيتبلور ذلك «الحلف الرّباعيّ» على إثر انعقاد مؤتمر يالطا سنة 1945 الذي غدا فيه فرانكلين روزفلت وجوزيف ستالين، «أبطال» «حلف رباعيّ» مشكّل من القوى المنتصرة في الحرب العالميّة الثّانية، وهو الحلف الذي ستنبثق منه هيئة الأمم المتّحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©