الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الإنسان بين ثنائية الذات والآخر

الإنسان بين ثنائية الذات والآخر
5 أغسطس 2021 01:10

ترجمة وتقديم: عبد السلام بنعبد العالي

تقديم: معنيان يجري إعطاؤهما عادة لمفهوم «الخارج»:- هناك ما يمكن أن نسميه «الخارج الوضعي» الذي يصدر عن موقف يميّز تمييزاً مطلقاً، تمييزاً ميتافيزيقياً، بين الداخل والخارج.
- ثم هناك مفهوم آخر ينطلق من أن التمييز ذاته بين الخارج والداخل تمّ «داخل» تاريخ الميتافيزيقا، وأن الخارج الممكن لا يقوم إلا بإعادة النظر في مفهوم الداخل ذاته، وتقويض الثنائي خارج/ داخل لنحت مفهوم الهامش الذي يقوم على خلخلة كل مركزية، وعلى هدم الأسوار بين الخارج والداخل.
والهامش لا يعني الحواشي والأطراف التي تحيط بالداخل، وإنما هو النقاط التي يتخلخل عندها «المركز».
ولن يعود هناك معنى للتمييز بين داخل وخارج للإقامة في خارج مطلق، وإنما سيكون علينا، كما يقول جاك دريدا، إقامة «استراتيجية شاملة للتفكيك»، تتفادى الوقوع في فخ الثنائيات الميتافيزيقية، وتقيم «داخل» الأفق المغلق لتلك الثنائيات عاملة على خلخلته: «فأن تفكك الميتافيزيقا معناه أن تقيم جينيالوجيا مفهوماتها وفق أكثر الطرق أمانة، وأقربها إلى الداخل، ولكن في الوقت ذاته، انطلاقاً من خارج لا تستطيع هي أن تصِفه أو تسمّيه». إن الخارج المقصود يقيم إذن داخل الامتلاء الميتافيزيقي ليبيّن أنه امتلاء وهمي.
جميع الاستراتيجيات التي توخّت خلخلة ثنائيات الميتافيزيقا سواء أسمّت نفسها تقويضاً أم هدماً أم حفراً أم تفكيكاً، لم تقم في خارج مطلق، ولم تسعَ قط إلى التركيب بين الداخل والخارج، وإنما حاولت تجاوز التركيب الجدلي، ولم تعمل قطّ «على ضمّ الثنائيات إلى بعضها بعضاً والتركيب بينها»، وإنما واجهت الفكر الجدلي بفكر الاختلاف لتثبت المباينة différance «كحركة لتوليد الفوارق»، ولتقحم الزمان في «تحديد» الكائن، لا لضمّه وحصره، وإنما لجعله معلّقاً في حركة إرجاء دائم، بحيث يدّخر نفسه، ولكن، ليس كما هو الأمر في الجدل الهيغلي حيث فُهم الادّخار داخل اقتصاد ضيّق، وإنما «هو ادخار حِفظ وإرجاء إلى حين». وحده هذا المنحى التقويضي الذي «ينخر» الهوية، والذي يقيم فكر الاختلاف مقابل الجدل، يمكّننا من أن نعيد النظر في الثنائيات التي كرستها الميتافيزيقا، ومن بينها ثنائية الداخل والخارج، تلك الثنائيات التي تتغذى منها خطاباتنا، ما دام الاختلاف يعيّن الحضور كأثر، فيقيم تباعداً بين الحاضر وبين نفسه، بين الخارج والداخل، بين الهوية وبين نفسها، ويجعلها «انتقالاً ملتوياً ملتبساً من مخالف لآخر، انتقالاً من طرف التعارض للطرف الآخر». فكأنما تغدو خلخلة الثنائيات إعادة نظر في الأطراف ذاتها، وكأنما ينقل الاختلاف هنا من «خارج» الهوية إلى «داخلـ»ها لتفكيك الخارج والداخل معاً. هنا تغدو الثنائية قائمة في الواحد، ويصبح الاختلاف قائماً في الهوية، والداخل منطوياً على خارجه. كتب فوكو: «إن المساواة أ=أ تنطوي على حركة داخلية لامتناهية تبعِد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه. يتعلق الأمر ببعد إيجابي بين المتخالفين، إنه البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما متخالفان». وهذا البعد هو الجسر الذي يشير إليه المختص في الدراسات الإغريقية، جان بيير فرنان، في هذا النص الذي ننقله إلى اللغة العربية.

النص المترجم*:
أن يعبر المرء جسراً، ويخترق نهراً، ويتخطّى حدوداً، معناه أن يغادر الفضاء الحميميّ المألوف، حيث يكون المرء في مكانه، كي يلج أفقاً مخالفاً، وفضاء غريباً، مجهولاً، حيث يكون معرّضاً لمواجهة الغير، ولأن ينكشف من غير مكان يخصّه هو، أن ينكشف من غير هوية. إنها قطبية الفضاء البشري المكوّن من داخل وخارج. هذا الداخل المطمئِن المسَيَّج القارّ، وذاك الخارج المقلق المنفتح الحركيّ، عبَّر عنهما الإغريق القدماء على شكل زوج من الآلهة المتحدّين والمتعارضين: وهما هيستيا وهيرميس. هيستيا إلهة المأوى والمدفأة، في قلب البيت. إنها تشكل فضاء مألوفاً فتغرسه في قلب الأعماق وتجعل منه داخلاً قاراً محدوداً ثابتاً، ومرْكزاً يحقق لمجموع أفراد العائلة، بما يضمنه من استقرار مكاني، دواماً في الزمان، وتفرّداً على سطح البسيطة، وأمناً اتجاه الخارج. وبقدر ما تتمتع به هيستيا من استقرار وعمارة، وبقدر انغلاقها حول البشر والثروات التي تحميها وتصونها، بقدر ما يتمتع به هيرميس من ترحّل وتسكّع وتجوال عبر العالم، فهو يتنقل دون توقّف من مكان لآخر، غير عابئ بالحدود والأسيجة والأبواب التي يقتحمها على هواه. إنه سيّد التّواصل والاتّصال، لا يفتأ يجري وراء اللقاءات، وهو إله الطرقات حيث يرشد المسافر، وهو أيضاً إله الأراضي الممتدة التي لا طرق تخترقها، إله المراعي حيث يقود الماشية، وهي الثروة المتحركة التي يتكفل بها مثلما تتكفل هيستيا بالثروات المخزونة التي تكتنزها أسرار المنازل. صحيح أنهما إلهان يتعارضان، إلا أنهما لا يفترقان أيضاً. طرف من الأطراف المكوّنة لهيستيا يمتلكه هيرميس، وجزء من هيرميس يعود إلى هيستيا. فالغرباء القادمون من بعيد، أولئك الضيوف والمبعوثون يجدون مأواهم وغذاءهم في معبد الإلهة هيستيا، في مأوى المساكن الخاصة والمباني العمومية. ولكي يكون هناك داخل حقّ، ينبغي أن ينفتح على الخارج كي يستقبله في حضنه. وكل فرد بشري ينبغي له أن يأخذ على كاهله نصيبه من هيستيا وحظّه من هيرميس. ولكي يكون المرء هو ذاتَه، ينبغي أن يرتمي نحو ما هو غريب، وأن يجعل نفسه تمتد في الغريب وعن طريقه. وإذا بقينا منغلقين على ذواتنا، فإننا نضيع ونكفّ عن الوجود. إننا نعرف ذواتنا ونتشكل عن طريق الاتصال والتبادل وملاقاة الآخر. ما الإنسان إلا جسر بين ضفتي الذات والآخر.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©