الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

من حالات الأشياء إلى حالات النفس.. سيميائيات الأهواء

من حالات الأشياء إلى حالات النفس.. سيميائيات الأهواء
23 سبتمبر 2021 01:22

لولوة المنصوري

ما هي الأهواء؟ وما موقعها في الأدب؟.. تبدو الأجوبة غامضة أو حَشَوية تعيد لاشعورياً تلك المعاني الموغلة في الأوهام والمعتقدات. حدس الأهواء ما زال محمّلاً بتأنيب كبير، واقعاً تحت طائل متعسف من تعريفات محرّضة على اللوم والشعور بالذنب، لأنها تأصّلت على معجم تخويفي ترعيبي من نوازع الطبيعة النفسية والكينونة الأولى للبشر. تلك التعريفات القاصرة لاذت بفكرة الإغواءات المبهمة، بينما الأهواء طاقة شعورية نفسية وفكرية من نوع حميم وغامر بالمحبة والشغف، تسترعي الاطمئنان لعوالمها، والانفتاح على فكرة أنها مُحرضة على الإبداع والاختلاف عن السائد الجامد. هي أقصر الطرق لإحداث ثورة بشرية إبداعية عميقة، إنها اطمئنان البدائي الأول لطبيعة النفس البشرية، فلولا ذلك الاطمئنان لما بحث الإنسان بين أهوائه عن فكرة التجذر والخلود والبقاء، إنها العمق الأعمق من ذكريات الذاكرة، والبعد السحيق لبذرة في الكون، السبيل الأول للاندفاع نحو معرفة أسرار الحياة، وأول أسرارها هي الأهواء، التقلب، التناقض، الإغواء.
لطالما تساءلتُ وأنا في حالات «قفلة الكتابة» ومحاولات الاستقطاب التراكمي لطاقة السفر الداخلي نحو الكلمات: ماذا عن حسّ الأهواء وسيميائه كمُحرّض كتابي؟ ماذا عنه كمحرك خفي يفرض نفسه على التخيّر البدائي العميق للتعبير عن الروح والكائنات والطرائق المهمّشة؟ ماذا عن ذلك الميل اللاشعوري نحو موضوعات وجودية كونية تتخذ شكل مسار توليدي يترافق بحميمية قوية مع منطقة الطاقة والكينونة؟

  • غريماس
    غريماس

أقول: إن فعل الأهواء في الكاتب فعل لاشعوري، لا يتقصد أحد منهما الآخر، بل هي نقطة التقاء طبيعية بين الكائن ونفسه، تومض عند لحظة الانتشاء بفكرة التخلّص من ثقل الحياة على الروح، والبحث بين طيات مجهولة داخل الشعور، رغبةً في الالتماس الحُر نحو الحياة.
بعد أن اخترتُ كقارئة أن أرصد انطباعياً سيمائية الأهواء في الكتابة، وحال الهوى فيما هو أبعد من انبثاق الدلالة، تساءلتُ إن كانت هناك فكرة من هذا القبيل تمضي في هذا المجرى تحديداً وفق الدراسات والنظريات النقدية المعاصرة؟
وبعد البحث، كانت الإجابة: نعم.. هناك نظرية في اللسانيات تُسمى بـ«سيميائيات الأهواء»، وصاحباها العالم الروسي: «ألجيرداس ج.غريماس»، ومعه «جاك فونتاني» صاحب كتاب «سيمياء المرئي». فهذان اللغويان اشتركا في تأليف كاتب عنوانه: «سيميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس»*. وقام بترجمته أستاذ السيمياء: «سعيد بنكراد». حيث يعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي تتناول ظاهرة مألوفة تنتمي إلى المعيش اليومي: ظاهرة الهوى. كما أن الكتاب من أهم ما صدر في العشرية الأخيرة من القرن الماضي في ميدان السيميائيات (مدرسة ياريس)، عن دار سُويْ سنة 1991، قبل أشهر قليلة من وفاة غريماس (فبراير/ 1992).
ووفق منهجيات تحليل الخطاب: فإن «الأهواء منهج مُستحدَث في السيمياء، هي دراسة من صميم النفس الإنسانية وما تحمله من ميول ورؤى وجدانية مخصوصة وأبعاد انفعالية، عُرفت في التصور الباريسي بسيميائيات الأهواء. وقائمة على تفكيك الثيمات الاستيهامية في النصوص، على أنها الجزء الأعمق في المشاعر والعواطف، والتي تتم من خلالها دراسة حالات الأشياء إلى حالات النفس».

الهوى والمشاعر
ويشير سعيد بنكراد في ترجمته للكتاب إلى أن هناك فاصلاً بين الهوى باعتباره تجاوزاً «للحدود» (العتبات الثقافية)، وبين المشاعر التي تشير إلى حالات «اعتدال: تفترضها الثقافة وتحتكم إليها من أجل قياس حجمها وتصنيفها حسب الكثافة والامتداد والإيقاع.... وبناءً عليه، فإن ما هو أساسي في دراسة الهوى ليس التعرف على العلامات الدالة على الأهواء، بل الاهتمام بآثارها المعنوية كما تتحقق في الخطاب».
فقبل أن تكون هناك ذات عارفة، كانت هناك كتلة انفعالية (بُعد انفعالي) موجود خارج أي تمفصل، يتطور خارج البعدين المعرفي والتداولي (المكوّنين الرئيسين في النص السردي).
ويذهب المؤلفان إلى أن الحديث عن الهوى هو «محاولة لتقليص تلك الفجوة الفاصلة بين المعرفة والحس». فليس الانفعال مجرد موسيقى مصاحبة للفعل، لا تأثير لها في مجرياته، وإنما هو «هوى»: أي طاقة خاضعة لآليات بنيوية مخصوصة، ولابد من رصد تلك الطاقة الدلالية الكامنة، كما يُمكن تصوّرها خارج الخطية السردية.
وبرغم حداثة موضوع الكتاب وجاذبيته إلا أنه يعج بالمصطلحات النقدية التخصصية والأكاديمية الموجهة للباحثين، ويخفي في كثير من الأحيان قصدياته الفلسفية وبالأخص فيما يتعلق بالفضاء التوتريّ وما يتولد منه من تجليات معجمية وتقابلات ثنائية ومفارقات الفراغ والكل والامتلاء والصفر الكونيّ، إلا أن الجذب نحو هذا النوع من السيميائيات يترافق مع رغبة الارتقاء إلى قيمة القيمة، حيث الاستثمار الدلالي للكنوز اللسانية في النصوص السردية، وحيث المنطقة الطاقوية التي يولد فيها «الهوى» وفق تأويل جماليّ فلسفي حسيّ جديد، وحيث مكمن المعرفة المطمئنة على وضعنا النفسيّ ككُتاب يجمح بنا الهوى تارة نحو التحليق والتدفق والانهمار الكتابي، وتارة أخرى نحو الانغلاق والقفل والبيات والانزواء الهووي وفق تناقضات الذّات الداخلية. ولكن في كل أحوالنا نسير وفق منظومة التخلّق والتطور والنموّ، إذ لا وجود للثوابت في ذرات الكون الفسيح.
وهكذا.. رغم حاسة العناد والتعنّت والشرود التي قد تعتري أهواءنا في الأدب إلا أننا ندرك في النهاية بسعة هذا الكون الهووي وخصوصية الهوى الفردي وتجلياته الصورية في نصوصنا السردية والشعرية. ثمة «يأس متفائل» في أغلب الأحوال، ما دمنا في حالة تطواف مُقدّس داخل حلقة القلق الوجودي ونسق المضادات. وما دامت حاسة الأهواء تتجلى في الأدب كأعمق ركن في النوازع العقلانية الروحية، الخلاقة للابتكار والكشف.

  • غلاف الكتاب
    غلاف الكتاب

في نظري.. لا وجود لكتابة دونما أهواء، وأعلى مراتب الأهواء ما كان طبيعياً نابضاً بقلق العواطف وثورتها، ما كان عصياناً حاذقاً لمفهوم وهميٍّ عن الوازع الداخلي وخاضعاً لمفاتن الذاكرة المُربكة، وأجمل ما في الكتابة هو نقطة التحوّل تلك، حين ننكفئ نحو ذواتنا دونما وعي، وفق خيوط أزلية متشعبة في المآخذ والمخاطر والأخطاء البشرية، نجوب أفاقاً لم تُطرق، نستدعي النوازع والهواجس والمزاج وكلّ محفزات الصور الذهنية، المتجليّة بخفة عن النفس وأشواقها وشغفها، وانعتاق الميول الحماسيّ نحو الكائن الذي يلوذ بماء كيانه، بكل تدفق غامر جهة المُطلق من الحواس.
حاسة الأهواء في حقيقتها الإبداعية فضاء سيميائي واسع وإيحاء فكري نفسي أعلى مما نتوقع، الأهواء في الإبداع والأدب فكرة صوفيّة يمكن تقليبها على عدة أوجه حسيّة وباطنية مشفوعة بالانجذاب الفطري العفوي نحو صفوة المشاعر وقوتها.

* سيميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، تأليف ألجيرداس.ج. غريماس، جاك فونتنيي، ترجمة وتقديم وتعليق: سعيد بنكراد، دار الكتاب الجديد، ط1.2010م.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©