الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فن السماوات المفتوحة

فن السماوات المفتوحة
4 أغسطس 2022 00:26

د. عزالدين عناية

يتطلّع شقٌّ واسع من مبدعي الفنّ المعاصر إلى الانعتاق من ضوابط المؤسّسة ومن صلابة الفضاء، في مسعى للتواصل المباشر مع البيئة الطبيعية، ومع السكان المحلّيين، ومع الزائر العابر، ليبقى الفنّانون الطليعيون ضمن هذا التحول الروادَ في المجال، وأوّل من نبّهوا إلى أزمة المؤسسة المتحفية. فقد ظهر في هذا السياق الفني الباحثِ عن احتضان الجميع، ما يُعرف بـ«فنّ الأرض» في مجال النحت المعاصر، ورسم الجداريات، وإنجاز الأعمال الإبداعية التي تحويها فضاءات حرّة يُطلق عليها «متاحف السماوات المفتوحة». وقد بدأ هذا التقليد يضغط على العديد من التعابير الفنية، بدافع الخروج من أَسْر المؤسّسة واللقاء العفوي بالناس. وفي إيطاليا كانت ظاهرة «متاحف السماوات المفتوحة» قد أطلّت منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، لتشهد تطوراً بتوالي السنين، حيث يعُدّ البلد في الوقت الحالي ما يزيد على ستين متحفاً من هذا الصنف، تتوزع بالخصوص في مناطق توسكانا، وإيميليا رومانيا، ولومبارديا، وروما.
تمدّدت ظاهرة متاحف السماوات المفتوحة وباتت متنفّساً للناس يغري بالاحتذاء، على غرار ما نجده في ساحة الشعراء في «فيلا بورغيزي» في روما، من خلال تحويل المكان إلى منتزه- متحف، يعبّر عن اندماج مسالم بين العمل الفني والفضاء الطبيعي. ففي زاوية شعراء العالم يلتقي الزائر بتماثيل نظامي والفردوسي وشوقي والخيام، فضلاً عن شعراء آخرين من مختلف أرجاء العالم. كان لقائي الأول بهم في الفضاء المفتوح كأني ألاقيهم أحياء. بَيْد أنّ فضاءات الفنّ الطليق ومعروضاتها الإبداعية، ليس من الهيّن أنّ تجابه تقاليد ثابتة في التعامل مع الثروات الفنية، أضحى فيها العمل الفني خاضعاً للتسويق والترويج، ولسلسلة تجارية لا يشكّل فيها المبدع سوى حلقة بسيطة من جملة حلقات عدة.
ولئن توزّع رصيد الثروة الفنية في الراهن بين أطراف عدة، فقد ظلّ تواصلٌ خفي يربط المبدع بالمنتفع بالعمل الفني، على رغم دخول وسطاء على تلك العلاقة. وما انفك المبدع يُغريه البحث عن ولوج الفضاء المفتوح، وينفر من المكان المغلق، لكنّ الخروج من المتحف، في حقيقة الأمر، هو رهانٌ، وفي الآن نفسه هو تحدّ ذهني، لأعراف سائدة في التعامل مع الإبداع. وقد بدأ البحث عن صيغ بديلة للفنّ المتحفي منذ ستينيات القرن الماضي، مع فنانين آمنوا بأنّ الإبداع ينتعش بحضور الناس لا بمعزل عنهم. وجرى التفكير حينها في إعمار المتنزهات والفضاءات العمومية بالمنحوتات والرسوم والجداريات بدل عزلها في أروقة المتاحف. وعلى هذا الأساس أُطلق على ذلك التحول «فن السماوات المفتوحة» لميزة التواصل الطليق مع الباحث عن إرساء علاقة ذهنية جمالية مع العمل الفني، تتخطى العلاقة التقليدية المحصورة بفئة معيّنة من الرواد.

فضاءات صامدة 
وحتى ندرك السياقات التي رافقت ظاهرة مَأْسَسَة الفنّ، وما تطلّبته من أُطر حافظة ومانعة في الآن، يقتضي الحال العودة إلى منشأ ظاهرة المتاحف الكبرى في العالم. وقد أورد المؤرخ الإيطالي ماريو ليفِراني، الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في عام 2014، في كتاب «تخيل بابل.. مدينة الشرق التاريخية وحصيلة مئتي عام من الأبحاث» أن ظاهرة المتاحف الكبرى في أوروبا التي ترعاها الدولة، قد ظهرت لغرض استقبال المعروضات الضخمة الواردة من الإيالة العثمانية ومن مصر، بعد أن عجز الخواص عن حيازتها وجلبها. إذ تمّ تدشين المتحف البريطانيّ سنة 1759م، واللوفر سنة 1791م، كما تمّ فتح قسم الآشوريات للعموم في اللوفر سنة 1847م، وفي المتحف البريطاني سنة 1853م. وللإحاطة بشكل أوفى بالظاهرة، يشير المؤرخ إلى أنّ أولى المجموعات الإثنوغرافية، والضيعات النباتية المخصّصة، وحدائق الحيوان «التابعة للدولة»، بدت جميعها في هذه الحقبة الاستعمارية المبكرة، مظهراً جليّاً للإيديولوجيا الإمبريالية: أي لتجميع كافة أنواع العناصر الجميلة والغريبة من شتى الأصقاع في مركز العالم، كدليل على بسط النفوذ الإمبراطوري، ولإبهار الجمهور.
والسؤال: هل ما زالت سياسة الإيحاء الإمبريالي هذه تلبي حاجة الجمهور في التعامل مع الثروات الثقافية بعد أن أضحى هدف الناس استهلاك الفنون والتمتع بها وخفوت ذلك الإبهار المنشود؟
فحين يغادر الفن الأسوارَ ينعتق من الحصار المضروب حوله وتتحقق جماهيريته. أوليس هكذا بدا الفن طليقاً على جدران المعابد وعلى صخور الجبال في العهود الأولى؟ ولكن الفن مع ظاهرة المتاحف سلك طريقاً مغايرة، فَقَد فيها تلك العلاقة العفوية بين المبدع والجمهور. وإن ظلت فضاءات صامدة أمام تسويق الفن: الجوامع، الكنائس، المعابد، الساحات. فحين أرى جحافل الزوار يتوافدون على جامع عقبة بالقيروان، وعلى ساحة القديس بطرس في روما، أدرك أن الفن المقدس في كثير من الأديان ما زال يقاوم التسويق ويعانق الناس. ويعود هذا المتغيّر الحاصل في علاقة المبدِع بالمستهلِك إلى تيار «فن الأرض» (Land art) في أواخر الستينيات في نيويورك، حيث بدأ التوجه إلى إنتاج أعمال فنية على عين المكان تنسجم منذ لحظة الإبداع إلى مرحلة الاستهلاك مع الفضاء، وتتحرر فيها علاقة المبدِع بالجمهور من كافة الوسطاء. وقد برز حينها جمعٌ من الفنانين الرواد من أنصار هذا التيار، مثل ميكائيل هايزر، وروبرت سميثسون، وريتشارد لونغ، ووالتر دي ماريا. وهو توجه يتغاير جذرياً مع أعمال سابقة جرى إنتاجها داخل الاستوديوهات ثم نُقلت إلى الفضاءات العمومية. ومما لاقاه «فن الأرض» من مصاعب في البدء أن مجمل الأعمال المنجَزة قد أُعدّت في أماكن نائية بعيدة عن مسالك الزوار والسياح، ناهيك عما كرّسه ذلك الفن من تدخّل حادّ في الفضاء، ما جعل دعاة «الفن البيئي» في أوروبا يعارضون تلك التدخلات المجحفة ويحاولون إيجاد علاقة سويّة مع الفضاء الطبيعي. ولذا فقد اعتبر المؤرخ إنزو كارلي في كتابه «المشهد.. الفضاء الطبيعي والعمل الفني» (1981) أنّ «فنّ الأرض» لم يخلُ من الإجحاف، ودعا إلى مراجعة ذلك التمشي في ظلّ تزايد التأثير السلبي على البيئة. وعلى هذا الأساس مثّل التدخل المجحف في الطبيعة حافزاً لظهور مصطلح «الفن في الطبيعة» منذ عام 1986 الداعي إلى تصالح مع البيئة.

الفضاءات المغلَقة
بصرف النظر عن الدعوات التي تنادي بضرورة تغيير علاقة الإبداع الفني بالمستهلك وإخراجه من المَأْسَسَة الصارمة، ثمة مدن في العالم حافظت على طابعها المتحفي رغم سياسات التسويق التي تطغى في المجال الفني، وهو ما ينطبق بوضوح على مدينة روما. خمس عشرة سنة وأنا أتردّد على نابولي، جيئة وذهابا، أثناء تدريسي في جامعة «الأورينتالي»، لم أستطع خلالها هجران روما التي تبعد عن نابولي زهاء المئتي كلم. ولا أقول إن نابولي لم تغرِني أزقتها، ورائحة القهوة الفريدة فيها، ولذة البيتزا الفائقة، وأناسها البسطاء، ولكن الارتباط بروما ظلّ أشدّ، فما إن يجنّ الليل حتى أقفل راجعاً إلى «المدينة الأبدية» كما يسميها متساكنوها. فقد بتُّ أجد ألفة مع ذلك الكمّ الهائل من الفن المشاع في الأبنية والتماثيل والزخارف التي أصادفها أنّى ذهبت. رسوم ومنحوتات باذخة لا تسعها المتاحف، ولا تسورها الجدران، أتملى فيها وأستحضر الجهد المبذول في إنجازها، والروعة الفائقة في إعدادها، فلا أجد تفسيراً لذلك سوى أن هناك أناساً يحرصون على أن نشاركهم منجزاتهم.
وما من شك أن أوضاع جائحة كوفيد التي هزّت العالم قد غيرت من علاقتنا بالفضاءات المغلَقة تغييراً جذرياً، وهو ما دعم طروحات فن الفضاءات المفتوحة، لتغدو الساحات والحدائق والمنتزهات أماكن محبذة، مما أقنع بضرورة تغيير مسار المستهلك الفني، ولعلّه طريق آخر لتحرّر علاقة الناس بالفنّ.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©