الجمعة 17 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نوري الجراح: لماذا لا يُحتفى بالشعر العربي الحديث ؟

نوري الجراح
15 يونيو 2023 01:00

سعد عبد الراضي 
يعد نوري الجراح أحد الشعراء المهمين في المشهد الشعري الراهن عربياً وعالمياً، فقد نهل من ثقافات عدة أولها معين الثقافة العربية الأصيلة، وصنع من منهله جدولاً حداثياً خاصاً، ساعياً لأن يجعله -مع الطليعيين من شعراء الحداثة- نهراً جديداً يجدد ماءه ذاتياً، ليواكب الحاضر ويستشرف المستقبل، من دون أن ينفكّ عن سقيا جمال وعظمة لغته والألق الذي تحمله.
ونوري الجراح شاعر عاشق لكل ما من شأنه أن يسمو بالشعر من خلال اللغة والفكرة فتجربته ترسخ مفهوماً حقيقياً للشعر بعيداً عن القوالب والمحددات السائدة، ونقلت أعماله الشعرية إلى العديد من اللغات الأوروبية، وجاءت الحصة الأكبر من الترجمات في اللغة الفرنسية التي صدرت له فيها سبع مجموعات كان آخرها كتابه «ابتسامة النائم» الذي ظهر في منشورات «أكت سيد». ويكفي للدلالة على الاهتمام اللافت بتجربة الشاعر أن كتابه «قارب إلى ليسبوس» وحده حظي بتسع ترجمات أوروبية.«الاتحاد» التقت نوري الجراح عقب تتويحه بجائزة شعرية مرموقة في فرنسا هي جائزة ماكس جاكوب، لتخوض معه في جملة من قضايا الشعر العربي.
جمال العالم
في البداية، يؤكد نوري الجراح على فكرة أن الشاعر عاشق كبير وناقد كبير معاً. وهو ليس كذلك إلا لأنه العين الساهرة في ليل العالم، المتمرد على كل ما قد يخدش الجمال ويشوه الإنسان، ويؤذي الطبيعة وكل ما يخلق الفتور ويميت الدهشة في الإنسان فلا يعود يرى جمال العالم. وإذ أبدأ معه بالحديث عن مصطلح قصيدة النثر التي يعتبر أحد روادها ينتفض على الفكرة من أساسها، ويرفض إطلاق مصطلح قصيدة النثر على القصيدة التي يكتبها، حيث يقول: لقد ابتليت الثقافة العربية بهذا المصطلح، الذي أقحم على التجربة الشعرية العربية الحديثة بسبب الحاجة إلى تسمية هذا الوليد الجديد في الشعر العربي، والذي برز خصوصاً مع تجارب توفيق صايغ وسليمان عواد ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وآخرين، وأعاده بعض النقاد والمؤرخين إلى جبران خليل جبران.

قصيدة بلا اسم
ويرى الجراح أن حركة الخروج عن العمود الشعري إلى التفعيلة، جعلت البعض يجتهد ويطلق على هذه الآثار الشعرية الجديدة مصطلح «الشعر الحر»، ما جعل القصيدة الأحدث بعد ذلك عارية بلا اسم، فاضطروا إلى جلب تسمية لها من خارج التجربة هي مصطلح «قصيدة النثر»، وكما هو معروف فهي تسمية موجودة في الثقافة الغربية وصادرة عن تجربة غربية، ولكن بمواصفات ومعايير مختلفة.
وعن تجربته في كتابة الشعر، يقول: أكتب القصيدة ولا أعرّفها، تاركاً للذائقة وللمعارف النقدية أن تجترح أو تبتكر لها مستقبلاً اسماً، على رغم ميلي أحياناً إلى تسميتها «القصيدة الحرة». ولو عبرنا على إشكالية التسمية، فإن ما يشغلني اليوم أكثر من أي وقت مضى، يمكن أن يعبر عنه سؤال جوهري: بأي لغة يكتب الشعر؟ هل يكتب الشاعر قصيدته بلغة صادرة عن تجربته الخاصة مع اللغة، أم يكتب بلغة ليست له؟ لغة شائعة ومتداولة وبالتالي مستهلكة؟ لغة لم تصدر عن قاموس خاص، ولا هي ثمرة كدٍّ شخصي يستمد مع اللغة العربية الثرية ثراء محيط شاسع؟ ما يجعلني أقول هذا أنني بت أقرأ شعراً لشعراء من أعمار مختلفة يحمل السمات نفسها والموضوعات نفسها والتراكيب اللغوية نفسها والتفنن نفسه وأكاد أقول المزاج نفسه، حتى لكأنّ شاعراً واحداً كتبه وهذا أمر مربك ومحبط، ويشيع في النفس الكآبة، حتى لا أبالغ وأقول إنه مرعب.
المغامرة مع الكلمات
وعندما نسأله عن المخرج، يقول: على أكثر من شاعر واحد أن يجيب عن هذا السؤال، إنما ما أراه، أن على الشاعر العربي المنتمي إلى فكرة الجديد أن يكتب بلغته هو، باللغة القصوى الصادرة عن شغف لا حدود له وعن مغامرة تقصد الأبعد، ولا تتجول في الجوار القريب لتقتنص العاديات من اللغة والتراكيب والصيغ والموضوعات، أن يخوض الشاعر تجربته لا باللغة المتاحة، الكسلى، ولكن بلغة المغامرة مع الكلمات على نحو يجعلها تصدر عن معاناة ومكابدة خاصة مع اللغة وقد غسلتها التجربة الشخصية من كل سابق، وطبعتها بطابع شاعرها، مؤكداً أن ما سمي بالشعر اليومي بات نماذج مستهلكة. ومما يؤسف له أن شعراء كثراً، لاسيما في بلاد الشام، ومن ثم مصر، وحتى الشمال الإفريقي، جعلوا من تجربة محمد الماغوط وأحياناً أنسي الحاج سقفاً لتجاربهم. لم يصلح بالأمس ولا يصلح اليوم أن يكون هذا أو ذاك من الشعراء نموذجاً يحتذى به. لا يصلح أي شاعر في أي زمن أن يكون نموذجاً لشعراء معاصرين أو لاحقين. ما أراه أن ثراء مذهلاً تختزنه الشعرية العربية عبّر عن نفسه في أزمنة شعرية، لم يعد مصدر إلهام، أو إرث حي بالنسبة إلى شعرائنا المعاصرين. 
مفارقة «الهايكو»
وفي المقابل، هناك بين هؤلاء الذين أشاحوا عن هذا الإرث من اعتمد إرثاً شعرياً تقليدياً هو الهايكو الياباني. والهايكو كما هو معروف له، كما لقصيدة العمود، نظام صارم مرتبط بالطبيعة اليابانية والشخصية اليابانية. والسؤال الآن ما الذي يجعل شاعراً يثور ويفتكّ نفسه من قيود البيت الشعري لامرئ القيس، ويذهب ليلزم نفسه بقيود البيت الشعري لباشو الياباني؟ لست ضد التجريب واستلهام الصيغ أياً يكن مصدرها، ولا حتى ضد الترجمة في الشعر، ففي كل نظرة بعيدة هناك جديد، وإشارتي إلى الهايكو العربي مثال على مفارقة من نوع ما لا غير. 
ويرى الجراح أن من واجب الشعراء الحداثيين أن يغوصوا أولاً في الشعرية العربية الكلاسيكية، والكلاسيكية الحديثة التي برزت في النصف الأول من القرن العشرين، مع قامات كعمر أبو ريشة وسعيد عقل وبدوي الجبل، وما حفلت به من ثراء، ليس من باب الاتباع ولكن من باب القراءة والنقد والتجديد. والمؤسف، يضيف الجراح، أننا لو ألقينا اليوم نظرة فاحصة على قاموس القصيدة العربية من المفردات اللغوية (ولا أتحدث عن الندرة) لقفز في وجوهنا السؤال التالي: كم مرة في السنة يفتح الشاعر العربي القاموس؟! إنني أجزم بأن هناك مفردات جمة مدهشة في جمالها وقوة تأثيرها قد أخلت مكانها نهائياً من قصائد الشعراء!

الشعر نخبوي
من جهة أخرى، وعن مسألة شعبية القصيدة الحديثة وانتشار قراءتها، يرى الجراح أن الشعر الحديث نخبوي بطبيعته لغةً وتراكيب وعلاقات جمالية وحتى موضوعات، وبالتالي فإن انتشار قراءته ليس من المسلّم به أن يكون واسعاً. وفي نظره أن الشعر الجيد وفي كل أزمنته لطالما كان نخبوياً. والأهم في نظره، وهو ما يشغله، أن يكون الشعر مبتكراً وحديثاً ومرتبطاً في الوقت نفسه بقضايا الإنسان، مركزاً على فكرة أن يكتب الشعر بلغة مغامرة لا تنسب إلا إلى شاعرها، وأن يكتب من صراع مع الذات لا مع الآخرين، وهذا لا يتأتى إلا من غوص على ذات انشغلت في استكشاف أعماقها، ليمكنها أن تستكشف العالم. ولابد في نظره أن يذيب الشاعر ذاته في الوجود بعشق لا حدود له، أن يؤمن بأن الشعر هو الحب، وأن يكون قادراً على أن يمنح العالم هذا الحب، لتكون قصيدته طفلته المدللة، وليست خادماً لغرض اجتماعي، أو صنارة لصيد الأرباح. وفي نظر الجراح أن الشاعر لا يمكنه أن يجترح معجزة التجديد ما لم يتمرد أولاً على لغته، فالشعر يأنف العادات اللغوية.
وقال الجراح: بات نادراً أن يقع المرء على شعر يبهج قارئه! حتى لكأن القصيدة العربية وصلت إلى طريق مسدود وها هي تصطدم بالحائط! وأرجو أن لا يفهم من كلامي هذا أنني أتحدث عن الشعراء الجدد، كلامي له علاقة بالكتابة ولا علاقة له بالأعمار، ولا يغض النظر عن وجود ندرة من الشعراء الرائعين.
القصيدة مزاجٌ وإيقاع 
عن ارتباط الشعر الحديث بالترجمة يقول الشاعر نوري الجراح: غير صحيح أن الترجمة هي التي جلبت القصيدة الحديثة، من دون استبعاد دور الترجمة ولا تعدد الآباء والأمهات. القصيدة المترجمة كتبت عن طريق اللغة المتاحة للمترجم من خلال قاموس مفرداته ومخزونه اللغوي وثقافته الشعرية، ولا يصلح النص المترجم أن يكون سقفاً ولا نموذجاً ولا أفقاً للشعر والشعراء؛ لأن لغة القصيدة المترجمة هي ببساطة لغة مترجم أزاحت نصاً من لغته الأصلية وأعادت بناءه في العربية. فلم تعد القصيدة التي هي صيغةٌ وبنيةٌ ومزاجٌ وإيقاع وموسيقى وأصوات، لم تعد قصيدة أصلاً لشاعرها الأول وباتت قصيدة المترجم، فقَدَ الأصل لغته وصوته وامتلك صوتاً جديداً ولغة جديدة هي لغة مترجم، وليست لغة شاعر. ولما كانت القصيدة أكثر من مجرد كلمات/ حجارة في جدار، فقد بات معيار تحقق الشعر في النص المترجم تقريبياً مخففاً، أقرب إلى أن يكون (ما أنقذ من الشعر) وليس (ما ولد شعراً). 
ويمكننا أن نستدل على جانب من الفكرة بنص إليوت «الأرض اليباب»، أو «الخراب» أو «الجدباء»، أو «المحل» فقد ترجمه العديد من المترجمين، وكان لكل مترجم منهم محاولة لصب النص في لغة عربية، هي لغة المترجم، وكل هذه المحاولات يعتبرها الجراح جيدة ولكنها ستبقى قاصرة.
مشروع للشعر الحديث
عن جائزة ماكس جاكوب الشعرية التي فاز بها مؤخراً قال الجراح: سعدت بها بطبيعة الحال وكان الاحتفاء بي من قبل لجنة الجائزة مؤثراً، وأعتبره احتفاء بالشعرية العربية الحديثة، إلى جانب كونه احتفاء بطريقتي في كتابة الشعر، وبالترجمات التي حظي بها شعري بالفرنسية. وأضاف: لا أخفيك أنني شعرت بغصة كبيرة في باريس، فشعرنا الحديث لم ينل التقدير الذي يستحقه عربياً. وهو شعر صادر عن ثقافة عربية هي في جوهرها ثقافة شعرية ذات جدارة وعراقة والشعر أبهى ما تملكه. لماذا ليست لدينا بعد مائة عام من التحديث الشعري جائزة عربية للشعر الحديث؟ ما الذي يمنع ظهور مشروع عربي للشعر الحديث يرافق المشروع التنويري الذي يتطلع إليه العرب في حربهم ضد الظلامية؟ ما الذي يجعل مؤسسات عربية متوجسة من القصيدة الحديثة؟ فيا لها من مفارقة أن نحارب التقليد والاتباع في السياسة والاجتماع ونكرسهما في الثقافة. هل يعقل أن يمشي المرء إلى الأمام في حقل ورأسه تتطلع إلى الوراء في حقل آخر؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©