الخميس 2 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لحظة التنوير العربي.. مقاربة فكرية جديدة لهاشم صالح

لحظة التنوير العربي.. مقاربة فكرية جديدة لهاشم صالح
6 يوليو 2023 00:57

إميل أمين
صدر حديثاً للمفكر السوري الأصل هاشم صالح عمل فكري مهم بعنوان «من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي» في نحو أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، موزعة على نحو ثمانية وثلاثين فصلاً، تحمل صفحات من فكر التنوير، كرس صاحب الكتاب حياته من أجلها، منذ أن غادر سوريا في منتصف سبعينيات القرن الماضي، متجهاً إلى بلاد «الجن والملائكة»، بحسب تعبير عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، في وصفه لفرنسا في سيرته الذاتية «الأيام». وهذا العمل المهم في الثقافة العربية، لاسيما في أوقات المحنة العقلية، ليس الأول من نوعه للمفكر هاشم صالح، الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته وكتاباته الرصينة عبر عدة عقود خلت، ناهيك عن دوره في ترجمة تراث المفكر الجزائري الكبير محمد أركون إلى اللغة العربية.
وفي عام 2005 نشر هاشم أيضاً كتابه المعنون «مدخل إلى التنوير الأوروبي»، وقد حقق نجاحاً منقطع النظير، وجاءت ردود فعل القراء والمثقفين عموماً تجاهه إيجابية إلى حد كبير.
مفكر عضوي
ومن غير تطويل ممل ولا اختصار مُخل، يمكن أن نصف الدكتور هاشم صالح بأنه مفكر عضوي تنويري من عملة نادرة، كرس حياته لقضية التنوير وللبحث في دروب الاستنارة التي يصف نفسه بأنه قد انغمس فيها من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، واعتبرها قضية العرب الأولى في هذا العصر.
هل كان الإرهاب الأصولي، ودور جماعة «الإخوان المسلمين» بشكل خاص، بدءاً من تفجيرات سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، مروراً بتفجيرات الزرقاوي المرعبة لاحقاً في العراق، وكذلك أحداث العشرية السوداء في الجزائر، وصولاً إلى تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001، هي السبب الرئيس وراء تجذير هاشم صالح بحثه عن التنوير كمخرج للعرب من ظلمة الأصولية والعنف القاتلين، واللذين خيّما على سماوات عدة بلدان من المنطقة لنحو أربعة عقود متتالية؟
الجواب عند هاشم صالح: «نعم.. لهذا السبب صببتُ جل اهتمامي على التنوير الأوروبي وقلت بيني وبين نفسي: إذا كانت أوروبا قد واجهت ذات المشكلة العويصة في القرون الماضية، ونجحت في حلها، فلماذا لا ننجح نحن؟». ولهذا السبب غاص هاشم صالح في تاريخ أوروبا بكل تعمق لكي يعرف كيف انتقل الأوروبيون من عقلية العصور الوسطى إلى عقلية العصور الحديثة.

التنوير العربي
كان شغل هاشم الشاغل، البحث عن جواب للتساؤل المقلق الذي يقض مضاجع العرب اليوم: «كيف قدّر للأوروبيين ترويض تنين الأصولية الدينية في القرون الوسطى، وهو التنين نفسه الذي واجهه العالم العربي والإسلامي لعقود، وربما لا تزال بعض المواقع والمواضع تشكو منه، على رغم الضربات الموجعة التي تلقاها خلال عقد مضى؟.
والسؤال: ما معنى التنوير العربي عند هاشم صالح وفي صفحات كتابه العمدة هذا أول الأمر؟
يكمن مسار التنوير العربي في رأي المؤلف في الحالة المغايرة للظلامية الأصولية التي عاشها بعضهم في العالم العربي في العقود الماضية، كما عاشتها دول أوروبية من قبل مثل فرنسا في القرنين السادس والسابع عشر، أو حتى الثامن عشر. ويوضح المؤلف كيف أننا نعاني، عربياً، من الحروب الطائفية والمذهبية نفسها التي كانت تعاني منها أوروبا في تلك العصور. ويقول الكاتب إننا نقتل بعضنا بعضاً على الهوية كما كان الأوروبيون يفعلون سابقاً قبل ترسيخ ثقافة وفكر التنوير لديهم.
حداثة خاصة
وثمة سوال آخر يطرح نفسه: هل تعني كلمات هاشم صالح أن التنوير العربي ينبغي أن يكون نسخة طبقة الأصل عن التنوير؟ قد لا يكون هذا ما يقصده أو يعنيه بشكل دقيق، بل هدفه الرئيس هو الاستفادة من تجربة التنوير الأوروبي، ولاسيما أن المتأخر زمناً قد يأخذ عن المتقدم ولا عيب في ذلك.
ولعل مما يلفت في الرؤية التحليلية لهاشم صالح أنه يذكرنا بفكرة الحضارة، كوعاء بشري صب فيه بعضهم حين زادت مشاركتهم وقت الفيض، وأخذ منه بعض آخر عند الحاجة أو النضوب. فقد أخذ الغربيون عنا عندما كنا نحن أكثر تطوراً منهم وأكثر علماً وفلسفة واستنارة. وهذا قانون تاريخي نص عليه ابن خلدون. وستكون لنا حداثتنا الخاصة وتنويرنا الخاص الذي يتناسب مع خصوصيتنا العربية الإسلامية. فنحن ننتمي إلى تراث ديني يعتبر من أعظم التراثات الدينية للبشرية إن لم يكن أعظمها. ولكن الفرق بيننا وبينهم هو أن التراث المسيحي حظى بدراسات تنويرية ضخمة تملأ مكتبات بأسرها، هذا في حين أن تراثنا العظيم ظل محروماً من ذلك حتى الآن.
براثن الأصولية
ولأن المؤلف يدرك تمام الإدراك أن هناك الكثير من العقول التي ستذهب إلى التفكير في التنوير عبر قراءات معكوسة، وقد ترى أن التنوير صنو للإلحاد والخروج من الدين، يؤكد منذ البداية أن ما يقصده تحديداً هو الخروج من براثن الأصولية الطائفية والظلامية الدينية.
فالتنوير الذي ينشده صالح لا يعني الإلحاد، أو الخروج من الدين والمعتقد والتراث، تلك المنظومة القيمية التي يصفها بأنها: «أعز علينا من روحنا». بل «إنها تموت وكذلك نحن نموت إذا ما خرجنا من أحضان تراثنا... هل يمكن للسمكة أن تعيش خارج الماء؟ إنها تموت، وكذلك نحن نموت إذا ما خرجنا من أحضان تراثنا العربي الإسلامي». هكذا يقول صاحب الكتاب.

مسارات الحل
ويفتح المؤلف في الوقت نفسه أيضاً أعيننا على مسارات الحل، إذ يدفعنا إلى فهم تراثنا وديننا وعقيدتنا بشكل مختلف، ويقطع بأنه قد آن الأوان لكي نفهم كل هذا بشكل مختلف عن الفهم التقليدي القديم السائد لدى بعضهم منذ مئات السنين.
لماذا؟.. الجواب يمر بتعظيم العقلانية النافعة، ذلك لأن جوانب من الفهم الماضوي القديم أصبحت تسبب لنا مشاكل مع العالم كله، بل حتى مع أنفسنا أو فيما بيننا. وبالتالي فالتنوير العربي سيظهر أيضاً كتلبية لحاجة تاريخية مُلحة تماماً كما كان حال التنوير الأوروبي. فسيساعدنا على الخروج من الحزازات المذهبية والحروب الطائفية التي كلفتنا غالياً ولاتزال في بعض البلدان. ولعل أنفع وأرفع ما في كتاب هاشم صالح الجديد، هو طرحه أسئلة مثيرة للتفكير الخلّاق، وعنده أن التساؤلات أهم من الإجابات، ولاسيما أن الأخيرة تقودنا في مسارات محددة بعينها، بينما الأولى تفتح مسارب التأويل والاجتهاد على أوسع أبوابها.
أزمة الوعي
ومن تلك الأسئلة: هل أزمة الوعي الإسلامي مع ذاته ومع الحداثة العالمية تشبه أزمة الوعي المسيحي مع ذاته في المنعطف التاريخي الفاصل بين القرنين السابع عشر والثامن عشر؟
يبدو أن عدداً من المثقفين العرب يرفضون مواجهة هذه الحقيقة وجهاً لوجه، ولهذا فإن فصول كتاب «من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي»، ترد عليهم بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن الأسئلة العميقة ذاتها المطروحة في ثنايا وصفحات هذا العمل المهم أيضاً: ما معنى التفاوت التاريخي بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، أو بين العالم الأوروبي والعالم العربي؟ هل حقاً أن ما عاشه الأوروبيون في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر نعيشه اليوم في القرن الحادي والعشرين أم لا؟ يصعب علينا أن نناقش في هذه المساحة ما ورد في أربعمائة صفحة، ولكنّ هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى بعض من أهم القضايا الواردة فيما بين دفتي هذا العمل المهم، بصورة تثير اهتمام أي مفكر عضوي حقيقي، أسئلة من نوع: متى تنتهي هذه الموجة الأصولية؟ متى تنتهى التيارات الظلامية؟ هل كان ابن خلدون مفكراً تنويرياً؟ في هذا الصدد تحديداً، تتضح الولاءات الأركونية عند هاشم صالح، إن جاز التعبير، وبخاصة بعد حديثه عن «أركون وكيف يُحجم أسطورة ابن خلدون»، ومن غير أن يغفل التوقف عند أركون وما يعتبره التحرير الفكري الأعظم في الإسلام.

طاقات الأمل
ويفتح لنا هاشم صالح طاقات الأمل والنور في الفصل العشرين من كتابه حين يتحدث عن «انتصار المثقف التنويري على المثقف الأصولي في فرنسا». ويقودنا صالح عبر صفحات الكتاب إلى معرفة واضحة ومضيئة ببعض المفكرين والمستشرقين الغربيين الذين سعوا في طريق دعم العالم العربي للخلاص من الأصولية، مثل المستشرق الفرنسي «أندريه ميكيل»، الذي فعل ذلك بكل هدوء ورصانة ودون أي صراخ أو عويل وتهويل كما يفعل بعض المثقفين الفرنسيين الجهلة بالموضوع. وفي الفصل الأخير من كتابه الذي يحمل عنوان «الغرب وخيانة التنوير»، والعنوان مستعار من اسم كتاب المفكر الفرنسي «جان كلود غيبو». في هذه الصفحات ورغم أن أحداً لا ينكر مزايا الغرب العظمى التي لولاها لما تفوق على كثير من شعوب الأرض، إلا أن ذلك لا يمكن أن ينسينا النواقص والعيوب الكامنة في الجسد الحضاري الأوروبي أيضاً. ويخلص في نهاية هذا الفصل إلى القول: مهما يكن من أمر الحداثة الغربية، فإنها بحاجة إلى مراجعة ونقد ذاتي لكي تصبح أقل غطرسة وعنجهية، وأكثر عدالة وإنسانية.
أرضية مشتركة
والخلاصة أن المثقفين العرب والمسلمين مدعوون إلى نقد الأصولية وكل مظاهر التعصب الديني من أجل التوصل إلى تفسير تحريري أو تنويري للتراث العربي - الإسلامي الكبير.
وتالياً يمكن للطرفين، العرب والأوروبيين، أن يلتقيا على أرضية مشتركة، هي أرضية الفلسفة التنويرية التي تمثل الكنز الأعظم والمشترك للبشرية وقد أسهم العرب المسلمون في بلورتها أيضاً إبان العصر الذهبي لحضارتنا، فهم الذين أناروا فكر أوروبا عندما كانت تغط في ظلمات العصور الوسطى، ومن دون ذلك لا يمكن لحوار الثقافات أو الحضارات أن يؤدي إلى نتيجة ملموسة. فليكنس كل طرف أمام بيته أولاً، إن أردنا هدم الجسور وإقامة الجدران.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©