الخميس 2 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: ثقافتنا الضائعة

د. عبدالله الغذامي
20 يناير 2024 00:56

يقول أبو عمرو بن العلاء «ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علمٌ وشعرٌ كثير»، وكلامه هذا ليس عن الشعر وحده بل إن الموروث الثقافي العربي القديم قد تبخّر لأن الثقافة كانت في غالبها شفاهيةً مع بعض كتابات يسيرة تتمثل في النقوش وما قيل عن القصائد المعلقة على الكعبة، ولسوف تثبت صحة هذا القول عبر مقارنتها بمكتشفات الفاو على مشارف الربع الخالي التي كشفتها البعثات الحفرية التي دشنها قسم الآثار في جامعة الملك سعود بدءاً من 1972وامتدت لثلاثة عقود من العمل الجاد والمتصل، وكشفت عن بيئة عربية قديمة تدل على قوم يقرؤون ويكتبون ومنها كتابات لأطفالٍ ونساء، وبعضها كتابات على دورات المياه تشبه ما يجري في زمننا هذا من كتابات على جدران الحمامات، مما يكشف عن مجتمع غير أمي. وكذلك تم العثور على نصوص على ألواح كبيرة معلقة على جدران المعابد مما يؤكد فكرة تعليق القصائد على جدران الكعبة وتاريخها يعود إلى ألفي عام قبل الميلاد. ولكن هذا كله كان مندثراً في أزمنة مرت، فمنطقة الفاو طمرت تحت رمال الربع الخالي واحتاجت لحفريات عميقة ومتصلة لكشفها مما أثبت ماضي ثقافة الجزيرة العربية.
على أن مشروع التدوين في صدر العصر العباسي قد نهض بفكرة تدوين التراث العربي فدُوِّن بعض ما أمكن أي (القليل) حسب كلمة ابن العلاء، ولا شك أن ثقافتنا العربية مدينةٌ للمدوّنين العباسيين الذين فتحوا صدورهم لاستقبال الرواة وحفاظ الأشعار ومروجي الحكايات، فتم تدوين كل ما وصل إليهم بمهنية عالية وغير منحازة ولا تشرطية وبحرّية مطلقة وتسامح غير مشروط. وقد يبلغ التسامح حدود التساهل وعدم التحري والتأكد من صحة المروي، وهذا تساهلٌ محمودٌ بما أنهم يتعاملون مع القليل مما فات وطمرته الذاكرة، وهي جهود لم تكن في خيار لكي تحذف وتستبعد وتنقّي ولذا جاء المنحول وربما كثر ذلك نظراً لرواج سوق الرواية وما تدرُّه من مال ومن جاه. على أن المنتحَل برهانٌ على صحة المنقول، وهذه مفارقة طريفة لأن ممارسي الانتحال يتسلحون بتماثل منحولهم مع المتوقع في النصوص الصحيحة، ومن ثم يتم إثراء المدونات ولا يمكن افتراض جهل المدونين بهذه الحقيقة ولكنهم يغضون الطرف عنها لأنها تزودهم بمادة يحتاجونها ليس في مدونات الشعر فحسب بل أيضاً في شواهد النحو وشواهد حوادث التاريخ وأيام العرب وأخبار المغازي، وربما نقول إن هذا يتم تحت شعار المباح للذاكرة الجماعية. ولابد في حال الانتحال أن يضع بعض القوم نصوصاً ينظمونها على غرار النسق الشعري والقصصي المتوقع عن الفترات الماضية، وهذا في العرف الثقافي مقبول لأن الانتحال سيشبه الأصل ولن ينتحل المنتحِل نصاً يختلف عن شروط الأصل مما يجعله بمثابة الأصل. وهنا يجري بناء الذاكرة الثقافية بدمج مكونات بعضها أصلي وبعض منتحل مما يجعلهما معاً بمقام الأصل. وكل هذا من باب بناء خطاب ثقافي يعوض عن تهمة تفريط الأمة في ذاكرتها. ولقد أشار أبو الفرج الأصفهاني مرةً أنه يدوّن ما سمع من دون التدقيق في الروايات، وحسناً فعل لأنه لو تشرّط لما بقي لكتابه من مادة تجعله كتاباً مركزياً في الثقافة العربية.
وقد نقل عن الأصمعي أن معظم شعر امرئ القيس لصعاليكَ كانوا معه فدخل النقل على النقل، وبهذا تم ترميم الذاكرة العربية الثقافية، وأورثنا العصر العباسي مدونات عظيمة، ولولا جراءة المدونين لضاع الكثير من التراث وطمرت السنين ذاكرةً يجب ألا يسمح لها أحد بالطمر.
كاتب ومفكر سعودي 
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©