في الأدبيات السياسية يُدلي المختصون، بأنه ليس هناك ثمة احتمال ضئيل، أن تغير الدول القوية المستقرة نهجها القائم ورؤيتها الإستراتيجية تحت الظروف الاعتيادية، بل تستلهم من خطتها الكبرى وتبني عليها من خلال الآليات المناسبة لتنفيذ ذلك النهج بصرامة، في الأوقات الملائمة، ولا تحتاج لوضع التبريرات للوسائل والطرق والمساحات التي تُنفذ فيها رؤيتها الراسخة، حيث تم دراستها وتنقيحها وتقييمها وتطويرها، بعناية فائقة، على يد الحكماء الخبراء المجربين.
الإمارات، وليس كما تراها الدول الشقيقة وشعوبها فحسب، بل وكما صدر حرفيا عن رؤساء معظم دول العالم، وكما تؤكد كافة الدراسات العالمية، أنها دولة قوية مستقرة، تمتلك جيشاً قوياً متطوراً على المستويين الإقليمي والعالمي، ولديها اقتصاد متماسك ينافس على المراكز الأولى في المؤشرات العالمية، وأنها حققت إنجازات علمية أذهلت العالم، ويتمتع شعبها بثقافة وعلم وقدرة وكفاءة، تضع التسامح والسلام أساساً لرؤيتها الإستراتيجية وبناء التحالفات المناسبة حسب نهجها المعلن، وأن ذلك لن يتغير أو يتبدل، مهما واجهت من تحديات.
ليست الإمارات بحال، في موضع الدفاع عن رؤيتها، فمركزها الدولي والإستراتيجي القوي واستقرارها يولّد حتماً الرغبة الدائمة في تطوير المزيد من العلاقات، وتذويب أية خلافات، وإقامة العلاقات الثنائية الدولية بعد دراسة مستفيضة لكافة سيناريوهات المستقبل المحتمل، والإجابة على كافة التساؤلات التي تواجه الدراسة وتقدم شرحاً تفصيلياً للمعطيات ومسارات الأحداث، وحين تتخذ القرار الإستراتيجي، تجاه أحد الملفات، تضع المصالح الوطنية العليا، فوق أي اعتبار، وتُخضع ذلك للتقييم الشامل، من كافة النواحي، كتوازن القوى والمتغيرات والتهديدات، ولا تتحرك قبل اختبار الاحتمالات جميعا.
الأسس والثوابت في سياسة الإمارات الخارجية، ومنذ صياغتها لأول مرة، لم تتبدل على الإطلاق، فهي قائمة على السمات الأصيلة لتاريخ وحضارة هذه البلاد، وعلى رأسها السلام والانفتاح والتعايش السلمي ومد جسور التعاون والتواصل الحضاري والاقتصادي، وبما يعزز للإمارات حضورها الإقليمي والدولي ويحقق لشعبها وللإنسانية جمعاء، التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تصبّ عوائدها المباشرة في مصلحة الشعوب.
وبما أن السلام، هو التوافق والتفاهم الإيجابي في القضايا المشتركة الذي يحقق الأهداف المشروعة لكل أطرافه، لذلك فلا شك أن السلام، وكما يمنع الصراع ويُحجم الفكر المتطرف، فإنه يحقق الاستقرار في البيئة الإقليمية ويبعد عنها الخطاب السياسي المتشنج، ويرفع من سوية العلاقات الاقتصادية والثقافية والتعليمية والتجارية والاستثمارية، ويكون له التأثير الأبرز، في بث الحياة من جديد في شرايين الشعوب التواقة للاستقرار والنمو الاقتصادي.
أحياناً تواجه السياسات العامة تحديات على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، سواء بعض وجهات النظر المختلفة التي تقرأ ما يمكنها قراءته فقط أو ما تريد قراءته والترويج له، وكذلك بعض الاختلافات الدينية أو العرقية أو القومية، ولكن الدولة التي تدرك محددات السياسة الخارجية إداركاً شاملاً، يمكنها ببساطة تطويع تلك التحديات أو تجاوزها، وبما يتفق مع المصالح العليا ويتناغم معها، فتصبح سيادتها وقوتها وقدرتها على تنفيذ تلك السياسات، في الاتجاهات والوجهات المختلفة أو المحددة، هي العنوان الأول لذلك الفصل الذي يوضع بين يدي صاحب القرار.
عبر المحطات التاريخية الكثيرة، كانت الإمارات وما زالت تسعى لتنفيذ سياستها ورؤيتها العميقة وبما لا يتعارض مع الأمن القومي العربي، فكانت طرفا رئيسيا في التحالفات العربية والإقليمية والدولية، وأنشأت شبكة علاقات دولية يمكن وصفها بالمتميزة، وبقيت قضايا الأمة الرئيسية تشغلها بحق، فتبحث عن الوسائل تلو الأخرى لإيجاد الحلول الجذرية، سواء لقضية فلسطين أو ليبيا والعراق وسوريا، ودون التدخل في الشأن الداخلي، وبما يحفظ الحقوق والأراضي العربية.
من هنا، فإن اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل، هي اتفاقية تُضاف إلى سجل الإمارات المشرق المليء بالاتفاقيات المشابهة مع معظم دول العالم، والتي استندت إلى الأسس والثوابت الإماراتية وقامت على قرارها السيادي ومركزها القوي وعلى المصالح العليا للدولة، وبما لا يتعارض مع الأمن القومي أو الحقوق العربية، بل ستكون مرحلة هامة تقود إلى نتيجة تتوخى تحقيق مصالح جميع من يسعون للسلام.
أسبوع واحد فقط، مرّ على الإعلان التاريخي الذي هزّ العالم، من أقصاه إلى أقصاه، كما لم يحدث قط، خلال القرن الحادي والعشرين، فلاح لرجال السياسة والمحللون ما ستنتجه اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل من تغيير شامل في العلاقة العربية الإسرائيلية، والذي بدأ بوقف ضم الأراضي الفلسطينية وسيتجه نحو «حل الدولتين» على حدود عام 1967، وإيجاد الحلول الناجعة لمشاكل المياه والأمن وعزل قوى الإرهاب والتطرف ولإعادة صياغة شرق أوسط جديد مزدهر بالتنمية والسلام.

 * لواء ركن طيار متقاعد