أسوأ ما يمكن أن يحصل لأي كيان سياسي أن تتحول فيه مفاهيم السيادة من مفاهيم دستورية تنظم الحقوق والأفراد إلى مفاهيم أمنية تحمي النخبة فقط. المصيبة أكبر حين يكون الأمر متعلقاً بهيئة قامت أساساً على شرط إثبات نفسها كحالة تنظيمية، قد ترتقي إلى مفهوم الدولة، مثل «سلطة الحكم الذاتي» الفلسطيني والتي أنشأتها اتفاقية أوسلو عام 1993، وحملت مسؤولية تنظيم حقوق الشعب الفلسطيني في أراضي السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
قيادات السلطة بمجملها قيادات منظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها حركة «فتح»، والمنظمة حملت مسؤولية حق التمثيل الشرعي للشعب الفلسطيني الذي أوصلها لمدريد ثم التسلل إلى أوسلو، ثم تنتهي بسلطة حكم، وتمثل بعض قياداتها مصالح النخب الشخصية فقط.
فعلياً، ومن تواصل شخصي مع نخب مثقفة وأصدقاء عاديين جداً في الضفة الغربية وبين عرب إسرائيل، أتلمس بوضوح ذلك الغضب من مآلات السلطة الفلسطينية التي كان لدى الناس فيها منتصف تسعينيات القرن الماضي أمل بكيان ينظم حقوقهم وواجباتهم، ويكون أفضل حالاً من «إدارة الاحتلال»، وهي التسمية التي أطلقتها إسرائيل نفسها على إدارتها للضفة والقطاع قبل أوسلو!
طبعاً، لا يمكن أن أعتمد «اتصالاتي الشخصية» معياراً لأي فرضيات أو نظريات تثبت ما يعرفه الجميع، لكن ربما كان الاستناد إلى جهة إحصائية موثقة أكثر ضماناً كمعايير إثبات، وقد لفت الانتباه إليه الزميل الكاتب حسين عبدالحسين مشكوراً، وأقصد هنا المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، والذي قام بإجراء استطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك في الفترة ما بين 14-19 مارس 2021، وتم إجراء المقابلات وجهاً لوجه مع عينة عشوائية من الأشخاص البالغين، بلغ عددها 1200 شخصاً وذلك في 120 موقعاً سكنياً، وكانت نسبة هامش الخطأ +/-3%.
ما نسبته 30% من الجمهور الفلسطيني، تقول إنها ترغب في الهجرة بسبب الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الراهنة، وتبلغ هذه النسبة 40% في قطاع غزة (حيث حكم التطرف الديني)، وتنخفض إلى 23% في الضفة الغربية.        
بينما نسبة الاعتقاد بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية تبلغ 84%. وتقول نسبة من 70% إنه يوجد فساد في المؤسسات التي تديرها «حماس» في قطاع غزة.
وتقول أغلبية من 51% إن السلطة الفلسطينية قد أصبحت عبئاً على الشعب الفلسطيني، وتقول نسبة من 44% فقط إنها إنجاز للشعب الفلسطيني.
أخطر ما في القراءات الرقمية أيضاً أن المشكلة الأساسية التي تواجه المجتمع الفلسطيني اليوم هي تفشي البطالة في نظر 30% من الجمهور، وتقول نسبة من 25% إنها تفشي الفساد في المؤسسات العامة، وتقول نسبة من 24% إنها استمرار الاحتلال.
تلك أرقام لا تكذب، ألم يحن الوقت لرؤية جديدة مختلفة كلياً، العودة إلى مدريد وما قبل أوسلو مثلاً؟
* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.