دأب المفكرون المسلمون في مصر والهند وتركيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الكتابة في المدنية وشروطها. وقد ارتبط ذلك عندهم بفكرتين أساسيتين: أنّ انحطاطاً حصل في «المدنيّة» الإسلامية، وأنّ ما سمَّوه بالمدنية الأوروبية هي المثال الذي ينبغي بلوغه. وبالطبع ما كانوا متفقين على سُبُل اكتساب المدنية الحديثة. أما محمد عبده الذي قرأ في شبابه كتاباً مترجماً عن الفرنسية عنوانه «تاريخ المدنية في أوروبا» (صادر عام 1877)، فكان يرى في أوروبا برداً وسلاماً. وصار يدرّس الكتاب بالأزهر إلى جانب مقدمة ابن خلدون. وهذا في حين رأى خير الدين التونسي في كتابه «أقوم المسالك» (الصادر عام 1867) أنّ تلك المدنية هي بمثابة السيل الذي لا يمكن دفعه، ولا بد من تعلم السير في غَمَراته أو يحدث ما لا تُحمدُ عقباه غرقاً وهلاكاً. وفيما كان جمال الدين الأفغاني يقدّر التمدن الغربي، كان يرى آثاره السلبية في بعض جوانبه المتعلقة بالاستعمار. فالأمم الحرة هي التي تملك زمام أمرها وتستطيع تحديد اختياراتها، أما الواقعون في إسار الاستعمار فإنهم لا يستطيعون ذلك. وأخيراً فقد انصرف رفيق العظم، الشامي الأصل الذي كان يطبع كتبه في مصر، إلى وضع القواعد والشروط التي يمكن بها اكتساب المدنية دون جوانبها السلبية. 
لقد سيطرت في أوساطهم جميعاً فكرة التقدم، وكانوا يعتبرون أوروبا واحةً لذلك. لكنهم كما اختلفوا في شروط الاكتساب، اختلفوا في أسباب التأخر أو الانحطاط. فمنهم من قال إنّ الجمود الديني، والتوكلية الصوفية، هما السبب. ولذلك قويت الدعوات لفتح باب الاجتهاد، وللخروج من تواكليات التصوف الشعبي. إنما من جهةٍ أُخرى كان هناك من رأى أولويات النهوض في الصناعة والتجارة والزراعة، وضرورات إنشاء الشركات في الصيغ والأشكال الحديثة.. باعتبار ذلك كلّه سبيلاً للخروج من التأخر. هذا البرنامج اقترحه أو رأى ضرورته رفاعة رافع الطهطاوي، وقد رأى أن محمد عبده يقوم به. وذهب فريقٌ ثالثٌ إلى أنّ الاستبداد السياسي هو بين علل التأخر، ومن هؤلاء خير الدين التونسي الوزير الأول بتونس، والصدر الأعظم باسطنبول، والذي عمل على كتابة دستورٍ (سماه شرطة أو كونستيتوسيون)، ومجلسٍ للشورى. لكنّ فكرة الحكومة المسؤولة تبلورت في زمن الخديوي إسماعيل بمصر. وفي مطلع القرن العشرين، كتب عبد الرحمن الكواكبي رسالته: «طبائع الاستبداد في مصارع الاستعباد»، معتبراً أن الشورى والدستور هما العلاج الشافي من التأخر.
وكان أول من استبدل بمفردة المدنية مفردةَ الحضارة هو أحمد زكي باشا في محاضراته بالجامعة المصرية الجديدة (1908-1909)، إذ حاضر في الحضارة الإسلامية. وقال إنّ الحضارة في هذا السياق ليست ضد البداوة، كما كانت في الاستعمال الكلاسيكي، بل هي المظاهر المادية لما كان المفكرون يسمونه: المدنية. ومع الوقت نسي المؤلفون مصطلح المدنية، لصالح مصطلح الحضارة.
لماذا كانت هذه المداخلة عن المدنية والحضارة؟
لأنني قرأتُ مقالةً في إحدى المجلات عن الثلاثي: مدنية وحضارة وثقافة، باعتبارها المصطلحات التي لم يقيضْ لها أن تنتشر! وبالطبع هذا غير صحيح، فنحن نستخدم مصطلح المدنية من حوالي القرن ونصف القرن. والحضارة منذ قرن، أما الثقافة فهي متأخرة الاستعمال. وقد استخدموها في عشرينيات القرن الماضي لترجمة كلمة Culture، واشتهرت حتى أصدر أحمد حسن الزيات صاحب «الرسالة» مجلةً باسم «الثقافة» أيضاً. 

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية