الإمارات شرعت في التعامل مع البعد الحضاري، قبل الوصول إلى مرحلة الاتحاد بفترة زمنية طويلة، وخاصة، عندما تولى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، زمام الحكم في العين من الفترة 1948 - 1968.

كان أكبر تحدي قد واجهه ندرة الموارد المائية، والتي كان بحاجة إلى المزيد من حفر الآبار الارتوازية والأفلاج والشرائع لإيصال المياه إلى المزارع والحدائق، وقد حالفه النجاح رغم مثبطات الخبراء الدوليين المارين على تلك المناطق القاحلة، فكان زايد يدعوهم للعودة بعد سنوات لكي يروا المعجزة الحضارية التي حولت مدينة العين إلى واحات غناء وجنان خضراء، وقد شارك زايد عملياً بيديه حتى نبعت الماء من بينها، لأنه كان مدركاً بأن الماء منبع الحضارات، وبناء عليه أصدر قانونه الخاص الذي يمنع التجار من بيع المياه واحتكاره.
بدأ الشيخ زايد أولى مشاريعه الزراعية بالعمل على تجديد أنظمة الري التقليدية لإيمانه التام بقدرة الزراعة على رسم صورة مغايرة لحياة الناس
وهو صاحب المقولة: «اعطني زراعة.. أعطيك حضارة»
لقد زرع طوال حياته قرابة 150 مليون شجرة وأوصل الإمارات إلى احتواء 20% من نخيل العالم. وهكذا تبينت فلسفة زايد التي تركز على أن الإنسان هو العمود الفقري، وهو الأساس الذي يقوم عليه بناء أي حضارة إنسانية، وهو محور كل نهضة حقيقية ومستدامة.
و بتغلب زايد على هذا التحدي يتحقق فيه قول «توينبي»: «إن التحدي هو الذي يخلق رجل الأحداث، والقادة لا يزدهرون في أسهل الظروف، وإنما - على العكس - يزدهرون في الظروف التي تتحداهم أشد التحدي. وكلما ازداد التحدي، صاروا أكثر عظمة، والانتصار على الصعاب والعقبات تؤهل لرجال الأحداث تبوأ الزعامة، ذلك أن الشعوب تعجب بالأعمال قبل الرجال. وإذا أعجبت بالأعمال، فإنها سرعان ما تمنح الرجال الثقة وتعطيهم زمام القيادة».
وبعد مضي خمس سنوات على حكمه للعين، وفي أول رحلة خارجية له عام 1953 إلى بريطانيا وفرنسا تأثر بالنهضة الحضارية بعقله وروحه المنفتحة على تجارب الآخرين وأفكارهم، وأقام على أرض الوطن نهضة تضاهي تلك التي وجدها هناك.
و بما أن الدولة تستقبل اليوم إكسبو دبي 2020، هذا الملتقى الحضاري العالمي، فحري بنا أن نؤكد على استمرار نظرة زايد نحو هذا الأفق المستقبلي، عندما شاركت أبوظبي في إكسبو 1970 اليابان بمدينة أوساكا، وقد شكل وفداً رفيع المستوى برئاسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، عندما كان آنذاك ولي عهد أبوظبي.
هذا الإدراك المبكر للتواجد في هذا المحفل العالمي، دلالة فارقة لما ستكون عليه الدولة بعد الوحدة والاتحاد.
بعد ماء العين، جاء دور منبع العلم، ففي العام الدراسي 1976-1977، تم افتتاح «جامعة الإمارات العربية المتحدة»، النبع الآخر لحضارة الإمارات في بواكير اتحادها، وأذكر يومها كنت في إدارة البعثات بوزارة التربية والتعليم، من أجل اتخاذ قرار الابتعاث إما إلى مصر أو الكويت، ولكن قرار افتتاح «جامعة الإمارات» هو القدر الجميل الذي لجأت إليه بلا تردد، بل كانت بشارة في الوقت المناسب.
منذ السنة الجامعية الأولى حرص الشيخ زايد بن سلطان على إرسال الطلاب والطالبات، في عطلة الصيف إلى شتى دول العالم شرقاً وغرباً بهدف الإطلاع على المنجزات الحضارية في المجتمعات المتقدمة.
وكنت في المجموعة التي سافرت إلى هولندا وبلجيكا، وكانت زيارة الجامعات على رأس الأولويات في برنامج الرحلة العلمية. وفي الجامعة التي زرناها دخلنا مصنع لصناعة السيارات الكهربائية التي كانت من مشاريع الطلبة آنذاك، ونتاجها اليوم شاهد أمام بيوتنا في مختلف إمارات الدولة، فكر اخترق نفق الزمان منذ خمسين عام ويتواصل عطاؤه لقابل الأزمان.
كاتب إماراتي