سبق لي أن كتبتُ عن نجاح أميركا المفاجئ في الحد من الأضرار الاقتصادية الناجمة عن كوفيد- 19. وبالمقارنة مع التوقعات وبالمقارنة مع طريقة تعاطينا مع أزمة 2008 المالية، فلا شك أننا أبلينا بلاء حسناً. ولكن بلداناً أخرى أبلت أيضاً بلاء حسناً، بل إنها، في بعض الحالات ومن بعض النواحي، كانت أفضل منا.

والحقيقة أن النجم صاحب الأداء المتميز خلال فترة الوباء من بين الاقتصادات المتقدمة الكبيرة هو... فرنسا. فرنسا؟ أتذكر دائماً أن التغطية الإعلامية الأميركية للاقتصاد الفرنسي كانت سلبية بشكل مستمر. ففي 1997، وصف روجر كوهين من «نيويورك تايمز» فرنسا بـ«البلد الأوروبي المأزوم المفضل لدى أميركا» (رغم أنه تحلى بالشجاعة الأدبية للاعتراف بخطئه والسخرية من تشاؤمه المبكر بعد 16 عاماً على ذلك». وبالفعل، ففي التسعينيات كان يقال لنا إن فرنسا تعاني من ركود ثقافي سيمنعها من مواكبة التكنولوجيا الحديثة. وهناك مقال آخر من 1997 عنوانه هو«لماذا يكره الفرنسيون الإنترنت؟»(فرنسا لديها حالياً معدل انخراط أعلى في خدمة النطاق العريض أفضل من أميركا).

وخلال أزمة اليورو في 2010-2013، كنتُ أقرأ باستمرار تأكيدات بأن فرنسا هي التالية التي ستنضم إلى اقتصادات جنوب أوروبا المتعثرة – ووصفها محرر بمجلة «فورتشن» بـ«فرنسا في حالة سقوط حر». ولكن البيانات لم تكن تدعم هذه السلبية بتاتاً. وأعتقدُ أن ما كان يجري هو أن الأعمال والخطاب الاقتصادي في الولايات المتحدة متأثرٌ بالإيديولوجيا المحافظة بشدة – وبالنظر لتلك الإيديولوجيا، فإن فرنسا، بإنفاقها الاجتماعي الضخم وضرائبها المرتفعة وتقنينها الاقتصادي الواسع، كان ينبغي أن تكون بلداً مأزوماً.

وهكذا، فإن الكتابات الصحافية عن فرنسا كانت تستغل كل تطور سلبي باعتباره مؤشراً على أن الكارثة التي طال انتظارها قد حلّت أخيراً. ولكنها لم تحدث أبداً. وبدلاً من ذلك، واصل الاقتصاد الفرنسي إحراز التقدم. صحيح أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أقل في فرنسا من نظيره في أميركا بنحو الربع. ولكن ذلك إنما يعكس في الحقيقة تضافر مجموعة من العوامل في مقدمتها التقاعد المبكر، والأهم من ذلك، ساعات العمل الأقل – وذلك لأن الفرنسيين، وخلافاً للأميركيين، يأخذون عطلات في الواقع. وهذا يعني أن الناتج المحلي الخام الأدنى نوعاً ما، إنما يعكس اختياراً وليس مشكلة.

غير أنه إذا كان الفرنسيون يعملون ساعات أقل من الأميركيين، فإنه من المرجح أن يجدوا وظائف خلال ذروة سنوات عملهم أكثر من الأميركيين. ربما تلك ليست هي القصة التي سمعتَها، وأعتقدُ أن كثيراً من الأميركيين ما زالوا يتخيلون فرنسا تعاني من البطالة الجماعية، وهي رؤية لم تكن تخلو من بعض الحقيقة قبل 25 عاماً ولكنها باتت قديمة ومتجاوَزة الآن. ثم إن التشغيل في ذروة سن العمل هو المجال، حيث أبلت فرنسا البلاء الحسن وعلى نحو مذهل خلال الجائحة. فالعديد من الاقتصاديين يستخدمون نسبة البالغين العاملين (ما بين 25 و54 عاماً) كمقياس لظروف سوق العمل. هذه النسبة انخفضت في الولايات المتحدة خلال أسوأ أزمات كوفيد- 19 الاقتصادية، وقد تعافت كثيراً منذ ذلك الحين ولكنها ما زالت دون مستويات ما قبل الوباء، رغم أن مؤشرات أخرى تشير إلى سوق عمل جد ضيقة.

غير أن فرنسا لم تتمكن من تفادي انخفاض هائل في التشغيل فحسب، ولكنها تمكنت أيضاً من تجاوز مستواها في التشغيل لما قبل الجائحة. كيف فعلت ذلك؟ عندما أرغمت الجائحة الاقتصادات على الدخول في فترة إغلاق مؤقتة، سارت أوروبا، بما في ذلك فرنسا، والولايات المتحدة في طريقين مختلفين نحو دعم مداخيل العمال.

فقدمت أميركا تعويضات بطالة محسّنة، في حين قدّمت فرنسا إعانات للمشغِّلين للإبقاء على العمال الذين أُوقفوا عن العمل مؤقتاً مسجَّلين على قوائم الرواتب. واليوم يبدو واضحاً أن الحل الأوروبي كان أحسن، لأنه أبقى على العمال مرتبطين بمشغِّليهم وسهّل عملية إعادتهم أكثر حينما تصبح اللقاحات متاحة. ثم إنه لئن كان لدى الفرنسيين معارضو تلقيح خاصون بهم، فإنهم لا يمتلكون قوة سياسية كبيرة كتلك التي يمتلكها نظراؤهم الأميركيون. ولهذا أبلى البلد بلاء أحسن في تلقيح مواطنيه.

وفضلاً عن ذلك، فإن لدى فرنسا أيضاً رعاية عامة للأطفال، استُؤنفت مبكراً نسبياً خلال الجائحة، على غرار المدارس – ما حرّر الآباء والأمهات وسمح لهم بالعودة إلى العمل. لا أريدُ أن أصف الاقتصاد الفرنسي أو المجتمع الفرنسي برومانسية، وكلاهما يعاني من مشاكل كثيرة في الحقيقة.

ولكن على الليبراليين الأميركيين الذين يروق لهم أن يتخيلوا أننا نستطيع تحييد غضب الطبقة العالمية البيضاء عبر زيادة الرواتب وتقوية شبكة الحماية الاجتماعية أن يدركوا أن فرنسا، التي توجد سياساتها إلى يسار أكثر أحلام التقدميين الأميركيين جموحاً، لديها حركتها القومية البيضاء القبيحة الخاصة بها، وإن لم تكن قوية مثل تلك التي لدينا في أميركا. غير أنه بينما يندِّد الجمهوريون بأي جهد يهدف إلى جعل أميركا أقل تفاوتاً اجتماعياً باعتباره «اشتراكية» مدمِّرة، فإنه من الجدير معرفته أن حالة الاقتصاد الفرنسي – الذي ليس اشتراكياً ولكنه أقرب إلى الاشتراكية من أي شيء قد يقترحه «الديمقراطيون» – على ما يرام.

كاتب وأكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»

https://www.nytimes.com/2022/01/14/opinion/france-economy-pandemic-socialism.html