عندما نعود في التاريخ إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى عام 1962 خلال عهد الرئيس الأميركي جون كيندي حين نصبت القوات السوفييتية الصواريخ في كوبا، مما وضع العالَمَ يومَها على كف حرب نووية ثالثة، إذ الدخول إلى كوبا يعني ضمنياً الدخول إلى قلب واشنطن.. فإن هذا السياق المختصر يلفت انتباهنا إلى ما يحدث اليوم حول أوكرانيا ومقولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إزاء سعي أميركا ودول أوروبا لضم أوكرانيا إلى حلف «الناتو»، حيث أكّد أنه «ليس أمام روسيا مجال للتراجع»، ويعني بذلك أن أعداءَه لن يدخلوا إلى عقر داره في أوكرانيا التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي قبل أن ينهار في نهاية الحرب الباردة عام 1991، وتصبح دولة مستقلة.

بعد الحرب العالمية الثانية تكوَّن معسكران: غربي تقوده الولايات المتحدة تحت مسمى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشرقي يقوده الاتحاد السوفييتي (حلف وارسو). وفي مطلع التسعينيات تفكك الحلف الشرقي وانضمت 14 من دوله إلى «الناتو» في عام 1997.

كل ذلك بعد متاعب عانتها روسيا في أفغانستان وفي الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي تباعاً، ومنها أوكرانيا، وبذلك توسع «الناتو» شرقاً، وأصبح يضم في عضويته معظم الدول الأوروبية التي كانت في المجال الشيوعي، مثل جمهوريات البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) وغيرها من دول أوروبا الشرقية.. حتى تقلد الرئيس الروسي بوتين الرئاسة واستعاد العلاقات الاستراتيجية بهذه الجمهوريات بجعلها موالية لموسكو، بما في ذلك جورجيا وأوكرانيا اللتين شهدتا انقساماً داخلياً حول خياري التحالف مع الغرب والتحالف مع روسيا.

والأهم في الشأن الأوكراني بالنسبة للغرب هو ملاصقتها لروسيا حدودياً، وهذا مجال النزاع الحالي، خصوصاً بعد استعادة روسيا جزيرةَ القرم التابعة لأوكرانيا، والتي كانت حتى عام 1954 جزيرةً روسيةً. ولو لم تكن أوكرانيا بهذه الأهمية التاريخية لروسيا لما التفتت إليها أميركا و«الناتو» اللذين يطمحان للسيطرة على جوار روسيا وبسط النفوذ فيه لشل قوّتها مجدداً.

الرئيس بوتين، وبعد استشعاره الخطر المحدق بروسيا من خلال حديقتها الأمامية (أوكرانيا) يسعى للحفاظ على المجال الجيواستراتيجي لبلاه بطريقة غامضة جعلت خصومَه يقعون في شباك لعبة الاحتمالات والتكهنات، أو كما يؤكد «بيتر زالماييف» (مدير مبادرة أوراسيا الديمقراطية) فإن بوتين سيستمر في ممارسة لعبة الاحتمالات وسيستمر في مزج وجس تكهنات القوى الغربية، وهو لن يقوم بأي شيء من شأنه توحيد الغرب في استجابة شاملة. ويذكّرنا زالماييف بتجربة سابقة عندما غزا الاتحاد السوفييتي تشيكوسلوفاكيا عام 1968، حيث تطلب الأمر 500 ألف جندي لدحر ثورة في بلد لم يكن لديه أي عزم على القتال عسكرياً.

وهنا ينبغي أن نلاحظ بأن الرئيس الروسي لاعب سياسي لا يستهان به، ولكنه أيضاً أحد أبناء المؤسسة الاستخباراتية الروسية وأهم دُهاتها. باتت أوكرانيا محور اهتمام العالم خلال الأسابيع القليلة المنصرمة، وذلك في ظل تعزيز روسيا لقواتها على الحدود مع أوكرانيا، ولعبة الاحتمالات والتكهنات، وزيادة التوتر بين موسكو والغرب، والتحذيرات الأميركية من غزو روسي محتمل لأوكرانيا.

ورغم حشدها نحو 130 ألف جندي بالقرب من الحدود الأوكرانية، وتحرك الدبابات وعربات المشاة القتالية وقاذفات الصواريخ، وغيرها من المعدات العسكرية باتجاه الغرب، انطلاقاً من قواعد في أقصى الشرق.. فإن روسيا وحدها تفهم جيداً مغبة الحرب كمعرفتها تماماً نتيجة المراوغة الاستراتيجية مع أميركا ودول أوروبا. وهي تعي جيداً التعامل مع الأطماع الغربية في ضم دولة تبرز أهميتها في السياسات الرامية لكسر شوكة روسيا مجدداً، بعد ما أصبحت أكثر حزماً وأقوى عسكرياً إزاء تلك السياسات الطامعة!

*كاتبة سعودية