هل فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟ الإشكالية معقدة وذات أبعاد متداخلة أوصلت المشروع التنويري في العالم العربي إلى طريق مسدود، يعمل كأنه ثقب أسود يبتلع كل الأفكار والأطروحات التنويرية ويقودها نحو ظلام دامس. والسبب هو بيئة التنوير المفقودة في الوطن العربي، والوعي بمحاور التنوير التي لا يوجد لها قاعدة جماهيرية، والنسخ المباشر للتنوير الغربي، وغياب النسخة التنويرية الشرقية، ناهيك عن مفهوم التنوير نفسه، والاعتماد المادي على العقل والتجربة وعدم التسليم بما هو غير قابل للتجربة. وبالتالي الوقوع في فخ أن ما نستطيع إثباته بالتجربة في الكون الواسع هو نقطة في بحر، ولا يفسر الوجود البشري والغموض الذي يحيط بالحياة، وحتى لو تخلص الإنسان من جميع القيود في حياته بما في ذلك الدين، فهو واقع لا محالة في معضلة الوصول لمعرفة حدود ما يجهل.

وهل الجهل بالشيء لا يجعله معرفة غير مكتشفه وبالتالي الجهل هو أساس التنوير؟ وكيف يكون التنوير عمليةَ تخلصٍ من جميع القيود؟

التنوير بحد ذاته هو قيد يضعه الإنسان على نفسه، والتنويري يقع في تناقض، فهو يؤمن بالمطلق التنويري، بينما يرفض حق غيره في ذلك بحجة أنه يؤمن بموروث تاريخي. والثمن الذي دفعته المجتمعات التي يعتقد أن نسبة التنوير فيها أكبر من غيرها من المجتمعات، واختزال التنوير في سلوكيات وأفكار وليس منظومة ونظاماً يسودهما عدم يقين تلقائي، وتجاهل الجانب الأخلاقي وفق تفسير كل حضارة له، ومحاولة جعل التنوير نهجاً متسقاً ومتناسقاً يخلو من العيوب والفجوات، بل رفض مجرد التفكير في عدم حضارية التنوير الخارج من غيبوبة الوحي التنويري الغربي، والذي كان على حساب الدم والقتل والنهب والإرهاب الأممي الذي خرج من تحت عباءة ثورات الإقطاعية الفكرية وأغلال العبودية الإنتاجية الاقتصادية، والتي أغرقت بالضرورة شواطئ التنوير، فكانت أيادي التنوير ملوثة بدماء الأبرياء والعولمة كاستعمار معاصر وممارسات التحضر الانتقائي والهيمنة المعرفية والعسكرية، وحصر ملكية حق التفسير لنخب نادت بالتعددية، ورفضت أن تقبل بعدم قبول الآخر لمشروعها، وأن مشروعها التنويري نهض تحت ظلال السيوف ودخان البارود.

فقد نشأ التنوير على فكرة نقد الموروث الروحي للبشرية، وبالتحديد الخطاب الديني وتحرير المجتمع من معتقدات ونظم حكم ورثها من أسلافه، وافتعال التجدد والتنوير السلطوي الذي جاء للتعامل مع مجتمعات سلطوية، ليتصدر التنويري المشهد الفكري النقدي التجديدي الفلسفي، مع تجاهل تبسيط الخطاب التنويري واستعمال أسلوب الصدمة أحياناً، واعتماد الخطاب الذي لا يحتوي على مفردات فيها إدراك ووعي أن لكل أمة صفات وسمات وجينات فكرية من الصعب تجاهلها، وعدم جعل التنوير أداة للعولمة غير الطوعية، والحديث عن أن التنوير هو محاولة الخلاص الأسمى من الجمود العقلي للمجتمعات، التي تقدم النقل على العقل. وقد خرج من الحراك التنويري أكاديميون ومفكرون وشيوخ دين وسياسيون واقتصاديون تنويريون، والقائمة تطول لأصوات تكرر عبارات وأفكار التجديد ولا تلامس جوهره.

أحياناً تحاصرهم القوانين والتشريعات وتمنعهم من الاقتراب، مما يغضب الغالبية العظمى أو تسييس أفكارهم وجعلها مصدر التنوير الحزبي السياسي بجانب الدعم الكبير من اللولبيات التي تدعم الحكومات وكبار المؤسسات التجارية والعلمية في العالم، لكونها الأجدر في قيادة القطيع، وهي التي تعلم أكثر من غيرها ما هو خير وأفضل للمجتمعات البشرية وحملات ممنهجة وغسيل مخ جمعي لتكرّيس تلك الفوقية الزائفة، وسيادة النظريات العلمية بعيداً عن الحقائق المطلقة أو الحقيقة العلمية التجريبية، ولذلك فالتنوير هو: فكر منهجي ومنطق استدلالي، وفن يتصف بالمرونة والتكيّف وقبول الآخر المختلف وهامش الخطأ، حيث قد يصل الشخص لمرحلة يكون فيها متنوراً في حيز تنوير خاص بتجربته كفرد، ولكن الطريق الذي سلكه ليس بالضرورة يقود للنور الذي يضيء له وللآخرين، وفي الوقت نفسه قد يقف عاجزاً عن الوصول لليقظة والصحوة الروحية ومعرفة الذات التي تضيء داخله.

* كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.