لا أبالغ حين أقول إنه بعد مسلسلَي «بنت اسمها ذات» عام 2013 و«سجن النساء» عام 2014، لم يلفتني مسلسل تلفزيون كما فعل مسلسل «بطلوع الروح» بما فيه من تفاصيل وجمال السيناريو ودقة اختيار الكادر التمثيلي والبيئة التقريبية لمناطق الاقتتال في سوريا، رغم استهلاك القصة مراراً وفي أعمال مختلفة على مدار عقدين تقريباً.. لكن الفارق هذه المرة هو التقاء الإبداع واقتسامه بين «منة شلبي» ومخرجة العمل «كاملة أبو ذكري» التي ما إن يمر اسمها في عمل إلا ويكون عملاً عظمياً يصعب تجاوزه.
أعمال متعددة خلال شهر رمضان لهذا العام ما بين الدرامي والكوميدي، وزخم هائل من الأعمال التافهة التي لا ترقى لمستوى ذائقة المشاهد الناقد، خاصة على الشاشة الصغيرة، حيث أصبح الحشو والتفاهة هما القاعدة بين سطور السيناريو، بينما غابت الأعمال القوية الهادفة التي تشدك من أول مشهد، كما حدث لنا مع مسلسل «بطلوع الروح» رغم تكرار القصة، كما أسلفتُ، لكن التناولَ هذه المرة ركَّز على معاناة فردية لامرأة من طبقة اجتماعية ميسورة ومنفتحة تجد نفسها بعد رحلة استجمام في غازي عنتاب التركية، وبعد قضاء وقت جميل مع زوجها وابنها في منتجع راقٍ، تجد نفسها في منتجع الرقة الدموي بكل ما ينطوي عليه هذا الاسم من عنف وقتل وتقطيع وجلد وترويع. ولو شخَّصت هذا الدور أي ممثلة غير منه شلبي لما خرج بهذه الروعة والجمال. وتشدك الحلقة من أول مشهد إلى آخر مشهد فيها لمدة نصف ساعة من انحباس الأنفاس وترقب الأسوأ في بيئة تحوَّل فيها البشر إلى وحوش والقلوب إلى حجارة!
كنت أعتقد أن أداء الممثل الناجح وانتقاءه لأدواره هو المحك لنجاح العمل، لكن الواقع أن العمل الفني -أي عمل- هو عبارة عن كل لا يتجزأ، خاصة حين يتم انتقاء المخرج الفذ ومَن يشخّص دورَ البطولة، ففي مسلسل «ذات» -مثلاً- لم تنجح نيللي كريم لمجرد أدائها الجميل، بل كان هناك أيضاً في كواليس الإخراج مَن يدقق ويوجه ويعيد ويزيد.. أعني المخرجةَ كاملة أبو ذكري التي حين غابت عن أعمال نيللي كريم تغيَّر الأداء والمحتوى كما نشاهد اليوم في مسلسل «فاتن أمل حربي»، فرغم جمال القصة وملامستها لحاجاتِ شريحةٍ كبرى من النساء، فإن المشاهد يستشعر حالةَ التراجع والملل في أداء نيللي. وهذا الرأي ليس انتقاصاً من الفنانة نيللي كريم التي أتحفتنا بعدد من المسلسلات الجميلة والهادفة، ولكنه طمع في عودتها إلى أدائها الطاغي وشخصيتها التلفزيونية الآسرة، والأهم اختيار مَن يعيدها إلى سابق تألقها ونجاحها.
«نوارة» فيلم مصري جميل لفتاة تأسر القلوب بعفويتها وبساطتها وضيق حالتها المادية. ونوارة هي منة شلبي الحائزة على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان دبي السينمائي لتجسيدها الدورَ بشكل صادم في واقعيته وآلامه وأحزانه، حيث تتضافر المآسي والعقبات ضد فتاة حُلمُها فقط الزواج «وأوضة» تلمها وتجنبها العملَ كخادمة، وتتصادف ظروفها القاسية مع ثورة 25 يناير 2011 وحالة الفوضى التي غيبت أناساً ذهبوا وذهبت معهم أحلامُ البسطاء ومدخراتُهم وحياتُهم. ومن يشاهد هذه التحفةَ الفنيةَ حتماً لن يفوّت فرصة مشاهدة مسلسل منة شلبي وكاملة أبو ذكري، الذي يجسد أجمل عمل درامي في رمضان بعد طلوع روحنا في انتظار عمل رائد بمستوى «بطلوع الروح».