حازت التعددية الدينية مجالاً واسعاً في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، وبشكل أكثر تخصيصاً في حقول الدراسات الكلاميّة والفلسفيّة والدينيّة المعاصرة.

وتعتبر الرؤية التعددية نتاجاً لنسبيّة الفهم، ومدى ارتباط هذه النسبيّة بالتعدّديّة، لا سيما أن هذه النسبية تعني عدم الوصول للمعرفة المكتملة لواقع الأشياء، بل إن ما يمكن تحقيقه من البحث في أمر ما هو جزئي غير شامل. وهذا السياق بالتحديد هو مَنشأُ التفكير الفلسفي القائل بإطلاق الحقائق، ومحدودية العقل البشري، ولذا فعقل الإنسان الذي يعتبر أداةَ اكتشاف ودراية وفهم، هو ذاته عثرة تمنعه من الوصول إلى الللامحدود من المعارف، الأمر الذي يلعب دوراً هاماً في بناء وجهات النظر تجاه ما يخالفنا من الآراء. وكما ساهم تأثّر الحقيقة بفهم الإنسان في إنتاج الرؤية التعددية ونشأتها، لا سيما أن البشرية «أم المشتركات»، لا يمكن اشتراكها في كيفية الفهم، ومدى الإدراك الذي يتأثر بالعديد من العوامل التي تجعل تشابهه شبه مستحيل، هذا إلى جانب أن تلك التصورات بالأساس تختلف عن حقيقة الشيء (الدقيقة). وعليه فالبشر يقدمون فهومات تجاه الأشياء تنبني على مادة خام هي «قابليّاتهم الفكريّة»، وهو ما ينطبق على المعارف الدينية كغيرها من المعارف والقضايا والعلوم، فكان لكل شخص رؤية دينية مختلفة.

وفيما يتعلق بالتعددية التشكيكية (نسبية الأديان)، فهي تمثل الحالة المعاشة في الوسط الديني، الواعي لمشتركاته الواسعة في ميادين المبادئ الاعتقاديّة، والفقهيّة والأخلاقيّة والقانونيّة، وفي ذات الوقت متنبه لما يقع فيها من تباين واختلاف. ومن هنا تأتي النظرة التشكيكية المندفعة من محاولة تمييز الكامل والأكمل. فالاختلاف القائم في الشرائع السماويّة على اختلافها ناشئ عن التشكيك الكائن على صعيد الحقيقة القائمة على كم المعرفة الإنسانية، والإدراك الإنساني، الذي يختلف من فرد لآخر، والذي يمكن تحسس تضاريسه في فروع الاختلاف في شتى القضايا الإنسانية.

وحول ماهية ذلك التشكيك فإنه يتركز حول محورين أساسيين، أولهما مختص بالتساؤلات المترددة المطروحة تجاه الحقائق الخارجيّة والمعارف البشريّة، وثانيهما المعني بتوجيه الأنظار لعدم نسبيّة هذه الحقائق والمعارف. فأما نسبيّة الشيء، أي عدم استقلاليته بشكل كامل، فمنها الاستنتاجات التي يخلص لها الإنسان من خلال القياسات والمقارنات وغيرهما.. وهي تشبه محاولة تحديد موقع بناء بالنسبة لنقطة أخرى، أي أنها قابلة للتغير والتحول بتغير المعطيات. وهنا لا تدخل الحقائق الخارجية المستقلة الوجود، والتي هي غير خاضعة للتغير والحساب.

وفي محاولة لوزن معرفةٍ بشريةٍ ما، فإن ذلك تابع للمعطيات التي تحيط بها، فقد تحقق الصواب إن حُظيتْ بتطابق مع الواقع، وإلا اعتُبرت فاشلة أو غير نافعة.. وفي كافة الأحوال يبقى الشك حاضراً، لسبب بسيط ينبع من محاولة المفاضلة بين ماهيات الأشياء المختلفة.

إن التعدّديّة التشكيكيّة تتضمن عناصر رئيسية، مثل في تعدّديّة الحقيقة، ووحدة حقيقيّة.. مما يعني أن الحقائق الخارجيّة والمعارف البشريّة مولدات رئيسية للتشكيك في قضايا تبقى كذلك حتى يثبت صوابها أو نقيضه من خلال مقارنتها مع المعارف الواقعية. ولا يمكن إغفال ما خرجت به نظريّة التعدّديّة الدينيّة من أن الاعتقاد بها يُبنى على نتائج رصينة تعترف بنسبيّة الأخلاق التي لا تتشابه لدى الجميع ولا يمكن اعتبارها ثابتة جامدة. كما تحترم وجود النسبية أيضاً في الفهم، والتي تقر باختلاف الفهم والمدلول باختلاف الناس وظروفها وتعدد أفكارها.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة