في خضم الحديث عن الدولة والهوية والمجتمع، لابد من التأسيس المتين للفضاء الثقافي الذي يعيشه المجتمع وبخاصةٍ في دول الخليج التي لديها إرثها العميق وتاريخها الطويل لكنها لم تستفد حتى الآن من الموروث الثقافي من أجل تأسيس هوية حيوية تجمع بين المضيء والمفيد والجميل من الماضي وبين الدخول في صرعات المستقبل وحداثاته.
الدكتور سعد الصويان له وجهة نظرٍ مهمةٍ حول هذا التأسيس، يعتبر القبيلة مؤدية لدور قوي إبان التأسيس مع الملك عبدالعزيز، ولكننا الآن لا نحتاج إلا إلى الدولة. يلمح لأن القبيلة يجب أن لا تتضخم على حساب الدولة وهذا فيه خطر، هذه المقولة مفيدة لأنها تمنحنا معنيين: الأول: أن الصويان باحث انثربولوجي، وليس مجرد جامع لسير القبائل أو شعراء النبط، لذلك بعض الموتورين هاجموه في نظريته تلك ولغوا في السباب والشتائم، لأنهم حين رأوه يدافع عن «الشيلات» أو «مهرجانات مزاين الإبل» أو مقارنته في مهرجان «أم رقيبة» بالمهرجانات الرياضية الإغريقية ولأنهم وجدوه كتب «فهرست الشعر النبطي» و«ثقافة الصحراء» توقعوه منتمي معهم على الطريقة الغريزية. المعنى الثاني: أن الصويان يذكّرنا بإعادة الانثربولوجيين الكبار، ومنهم حتى «التفكيكيين» لموضوع العادات الاجتماعية، أو المقموع نقدياً من الفلاسفة والمفكرين، بل وإعادة الاعتبار للأسطورة، نقرأ ذلك في نتاج الفيلسوف الانثربولوجي العريق «كلود ليفي ستراوس»، الذي قرأ الثقافات ودرسها ومنها ما كتبه عن إندونيسيا والبرازيل منطلقاً من الحقائق والخرافات معاً، ولعل هذا ما جعل الصويان يختار لرسالته الماجستير موضوع «الجن» مع أنه غير راضٍ عن نتيجتها وإن كان ممسكاً بأصل فكرتها لأنه يقول هذه الأطروحة «كتبتها قبل النضج».
والدفاع عن بعض الموروث الجيد الجمالي والفلكلوري والأسطوري والشعري إنما يعزز قدرة المجتمع على إثبات قوته وتاريخه مع حفاظه على حيويته وانفتاحه ومرونته. فمجتمعات العرب الأخرى استطاعت عبر الروايات والأدب والشعر والموسيقى أن تبقي حضور بلدانها في ذاكرة الشعوب، وهذا ما يُصر الصويان على أننا قادرون على فعله لدى المجتمعات الخليجية.
لذلك-بحسب الصويان-:«استطاعت الكلمة الشعرية التي أبدعتها قرائح الشعراء المجددين أن تحقق عدة أغراض فنية، بل ووطنية أيضاً. لقد دفعت كلماتهم الأغنية السعودية إلى أن تتخطى حدودها الإقليمية وتلقى صدى واسعاً وتقبلاً ورواجاً في مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير. وهذا في رأيي كسب كبير ينبغي التنويه به والتأكيد عليه. والمكسب الآخر الذي يلزم التأكيد عليه هو أن المملكة بمساحاتها الشاسعة ولهجاتها المختلفة ومناطقها الثقافية المتفاوتة وطبقاتها الاجتماعية المتباينة في أذواقها وإدراكاتها أصبح لها الآن طابع فني وغنائي موحد متفق عليه ويتذوقه الجميع. لقد تم ذلك بفضل النصوص الغنائية السلسة في لغتها والبسيطة في تركيبها. وكان للقصيدة-الأغنية دور فعال في توحيد هذا الوطن ثقافياً وصبغه بصبغة فنية واحدة أضفت بعداً جديداً لوحدته السياسية والاجتماعية».
الخلاصة أن بناء الهوية جزء من بناء الدولة، وحين يُقدر بعض الموروث ويُستخدم في صناعة الهوية، لا يعني ذلك أن مصدر الموروث هذا إن كان من القبيلة أو المنطقة أو الطائفة يعلو على الدولة هذه هي الفكرة باختصار، وعبء بناء الهوية يعلمه المسؤولون الخليجيون اليوم وهذا تحدٍ يمكنهم تجاوزه بالتعاون مع المؤسسات وفي بناء مؤسسات أخرى حديثة تعرف ماذا تريد الدولة من الموروث الاجتماعي.
كاتب سعودي