في العادة تمنح الأسواقُ المالية الدولَ الغنية والمستقرة سياسياً الكثيرَ من المساحة المالية. وعلى سبيل المثال، فإن بلدا مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا يستطيع عادة تسجيل عجز مالي كبير من دون أن يؤدي ذلك إلى التهافت على بيع عملته، وذلك لأن المستثمرين يعتقدون عادة أن الدول مثل دولنا ستتمكن في نهاية المطاف من تنظيم نفسها ودفع فواتيرها؛ كما يعتقدون أن البنوك المركزية مثل «الاحتياطي الفيدرالي» و«بنك إنجلترا» لن تدخر جهدا للحؤول دون أن يؤدي العجز في الإنفاق إلى تضخم جامح ومنفلت. 
بل إن العجز في الإنفاق في اقتصاد متقدم يجعل قيمة عملة ذاك البلد ترتفع عادة مقابل العملات الأخرى، وذلك لأن الاصطدام بين التحفيز المالي وشحّ المال (المال المتاح بمعدلات فائدة عالية) يؤدي إلى معدلات فائدة مرتفعة، وهذه المعدلات المرتفعة تجذب تدفق رؤوس الأموال من الخارج. وعلى سبيل المثال، فحين خفض دونالد ترامب الضرائب ورفع الإنفاق العسكري خلال أوائل الثمانينيات، ارتفع الدولار مقابل عملات رئيسية مثل المارك الألماني.
ولكن شيئا مضحكا (أو غير مضحك جدا، إن كنت بريطانيا) حدث خلال الأسبوع الماضي، حين أعلنت ليز تراس، رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة، عن «حدث مالي» يمكن وصفه بـ« نيو-ريجني». 
كان من الواضح أصلا أن حكومة تراس ستضطر لزيادة الإنفاق على المدى القصير، من أجل مساعدة الأسر التي تعاني جراء ارتفاع فواتير الطاقة الناجم عن حظر الغاز الطبيعي الذي يطبّقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحكم الواقع. غير أنه بدلا من 
زيادة الضرائب للمساعدة على تغطية هذه النفقات، أعلن وزير الخزانة في حكومة تراس عن خفض للضرائب، ولاسيما خفض كبير في الضرائب على أصحاب الدخول الأعلى. 
الشبه مع سياسة ريجان الاقتصادية كان واضحاً إذ ارتفعت معدلات الفائدة. ولكن في هذه الحالة، انخفض الجنيه بدلاً من أن يرتفع. 
لم يكن ذلك ردَّ الفعل الذي قد يتوقعه المرء بالنسبة لاقتصاد متقدم، بل كان مماثلا لما يراه غالبا في الأسواق الناشئة، حيث يخشى المستثمرون أن تغطي الحكومات ارتفاع العجز بطباعة مزيد من الأوراق النقدية، مما يؤدي إلى تسريع التضخم. 
ولكن، لماذا التهافت على بيع الجنيه؟ أحد الأجوبة التي أعجبتني جاءت من عالم الاقتصاد اللندني «داريو بيركينز»، الذي قال إن المشكلة مع الميزانية ليست أنها تتسبب في التضخم وإنما كونها «غبية»، وإن الاقتصاد الذي يدار على هذا النحو ينبغي أن يدفع قسط مخاطرة. 
ولكن لئن كنتُ معجباً بفكرة قسط «غباء»، فإنه قد يكون هناك قلق ملموس أكثر. وقد تراسلتُ مع اقتصاديين آخرين من لندن، وعبّروا لي عن شكوك حول ما إن كان البنك سيكون مستعدا في الواقع للتشديد بما يكفي لتعويض التأثير التضخمي لسياسات تراس الاقتصادية. 
هذه الشكوك تعزّزت يوم الاثنين الماضي، حين خيّب البنك آمال مستثمرين كانوا يأملون في زيادة طارئة في المعدل من أجل إرساء استقرار الجنيه الإسترليني، مقتصراً بدلاً من ذلك على بيان فضفاض يقول فيه إنه «لن يتردد» في رفع المعدلات إن اقتضى الأمر من أجل الحد من التضخم. 
غير أنني لا أرى أي سبب للاعتقاد بأن بنك بريطانيا المركزي فقد استقلاليته السياسية أو بأنه سيسمح لنفسه بأن يتعرض للضغط ويرغَم على تجنب زيادات في المعدلات من قبل حكومة يبدو أنها تؤمن بالفكرة «الزومبي» التي مفادها أن خفض الضرائب سيموّل نفسه بنفسه. 
بيد أنه قد يكون هناك سبب خاص ببريطانيا قد يكون جعل بنك إنجلترا مترددا في رفع المعدلات بما يكفي لاحتواء التضخم. 
والواقع أنني كلما نظرتُ إلى الأحداث الحالية في بريطانيا، وجدتُني أستحضر أزمة الجنيه الإسترليني لعام 1992. فآنذاك، وبينما لم يكن اليورو موجودا بعد، كانت الكثير من الدول الأوروبية، بما في بريطانيا، جزءا من نظام يهدف إلى الإبقاء على استقرار القيمة النسبية لعملاتها – ما يسمى «آلية سع الصرف». غير أنه في 1992-1993، تعرضت هذه «الآلية» لضغط شديد من قبل المضاربين، وأشهرهم جورج سوروس، الذين بدأوا يراهنون على تخلي العديد من اقتصادات أوروبا عن أهدافها والسماح لعملاتها بالانخفاض مقابل المارك الألماني. 
التصدي لهذا الهجوم المضارباتي كان سيتطلب رفع معدلات الفائدة بحدة لفترة طويلة. غير أنه في نهاية المطاف، أظهرت عدة بلدان، بما فيها بريطانيا، أنها غير مستعدة لفعل ذلك. لماذا؟ 
جزء من الجواب هو أن بريطانيا كانت تعاني من ارتفاع البطالة آنذاك وكانت تخشى أن تؤدي زيادة المعدل إلى تعميق الأزمة الاقتصادية. إلا أنه كان ثمة قلق آخر، وربما أكثر إلحاحا: أن مالكي المنازل البريطانيين، وخلافا لنظرائهم الأميركيين، يميلون نظرا لمجموعة من الأسباب إلى أخذ إما رهون عقارية بمعدلات متغيرة، تتغير معدلات فائدتها مع تقلبات السوق، أو رهون عقارية سيحين تاريخ استحقاقها وتحتاج لإعادة تمويل في غضون بضعة أعوام. 
في 1992، هذا الأمر كان يعني أن الدفاع عن الجنيه الإسترليني بمعدلات فائدة أعلى سيترجَم بسرعة إلى معاناة مالية مباشرة للملايين. وبعد بضعة أسابيع من خطاب سمته الرئيسية التحدي، خضع صنّاع السياسات أخيرا للضغط وتركوا الجنيه يسقط. 
والحقيقة أنه ليس لدي أي دليل مباشر على أن اعتبارات مماثلة تضغط على بنك إنجلترا الآن. ولكن ذلك يبدو محتملا. كما أنه ما زال من المبكر جدا اعتبار أن أمر بريطانيا قد حُسم وانتهى. فهي بلد غني ولديها كثير من الحرية للتحرك والمناورة. ولكن من جهة أخرى، إذا كانت السياسة النقدية البريطانية مقيدة حقا بهذه الطريقة، فإن تبني سياسة مالية «زومبي» ينم عن كثير من انعدام المسؤولية. ولا يملك المرء والحالة هذه إلا أن يتساءل كم ستبقى تراس، بالنظر إلى هذا الخطأ الفادح غير القسري في السياسة المالية. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز» 
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2022/09/27/opinion/uk-pound-inflation-mortages.html