مع تدهور قدرات القوة للولايات المتحدة، ومع تقلص الفجوة بين القدرات الأميركية وقدرات الدول الكبرى الأخرى، لا سيما الصين وروسيا، منذ الأزمة الاقتصادية العالمية 2008-2009، شهدنا تحولاً للنظام الدولي أحادي القطبية، أو نظام الهيمنة الأميركية «الجامدة»، بخصائصه التي تبلورت عقب انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991. ومن ثم، ولج العالَمُ في مرحلة جديدة يمكن توصيفها بالنظام الدولي أحادي القطبية غير متركز القوة Deconstructing Unipolar System، أو القطبية الأحادية المرنة. ويتسم هذا النظام بانتشار القوة بين عددٍ من الدول الكبرى، لكن يوجد قائد للنظام (الولايات المتحدة).
وثمة عدة دلائل تُؤكد هذا التحوّل من الأحادية القطبية (الجامدة) إلى الأحادية القطبية (المرنة)، أهمها: زيادة معدلات «عدم رضا» دول الفئة الثانية في النظام الدولي عن نمط الهيمنة الأميركية، وتدهور قدرات القوة الأميركية بسبب الأعباء العسكرية والاقتصادية، وتآكل القدرة الأميركية على توفير الأمن وغيره من السلع العامة للدول الأخرى، خصوصاً دول الفئة الثانية، وعلى تقديم الإعانات إلى الدول المتوسطة والصغرى، وزيادة قدرات الدول «المنافسة» (الثانوية)، لا سيما الصين وروسيا وألمانيا.
وكان الانسحاب الأميركي من أفغانستان، واستيلاء «طالبان» على السلطة، من أهم مؤشرات هذا التحول. وقد أوضح صاحب «نهاية التاريخ»، فرانسيس فوكوياما، أنّ هذا الحدث كان يعني تقويض هيبة أميركا ونهاية زمن قيادتها المنفردة، التي اتضحت جلياً في مقولة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش «من ليس معنا، فهو ضدنا».
ويتفق باحثو العلاقات الدولية على أن النظام الدولي الراهن غير مستقر، وسوف يتحول إلى نمطٍ آخر من القطبية اختلفوا في توصيفها، ما بين التعددية القطبية ونمط من الثنائية القطبية يشبه نمط النظام الدولي أثناء الحرب الباردة، مع حلول الصين محل الاتحاد السوفييتي.
ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتُسرّع عمليةَ التحول في النظام الدولي، وتقوِّي الاتجاهَ نحو التعددية القطبية. وبصرف النظر عن مآل هذه الحرب، فإنّ السياسة الدولية ما بعدها سوف تكون مختلفةً عما كانت عليه قبلها. وكانت قمة سمرقند لمنظمة شنغهاي للتعاون، في سبتمبر الفائت، والتي جمعت كلاً من الصين وروسيا والهند وغيرها، حدثاً محورياً يؤشر لهذا التحول التعددي للنظام الدولي. ويشير الباحثون أيضاً إلى قمة شي جين بينج- فلاديمير بوتين في فبراير 2022 على هامش افتتاح دورة أوليمبياد الألعاب الشتوية (في بكين)، والتي صدر عنها بيان مهم تحدَّث عن شراكة استراتيجية بلا حدود بين الجانبين، ودعا إلى تبني نظام متعدد الأقطاب.
ولا يختلف الخبراء في أن السياسة العالمية بعد الحرب سوف تتسم بتراجع الهيمنة الأميركية والغربية عموماً، ويتفقون على أن كلاً من الولايات المتحدة والصين سوف تكونان قطبين من الأقطاب التي سوف تشكل النظام الدولي ما بعد الحرب. لكن الخبراء يختلفون حول ماهية الأقطاب الأخرى. فمنهم من يؤكد على زيادة فرص روسيا، بعد شراكتها الاستراتيجية مع الصين، لتكون أحد هذه الأقطاب. ومنهم من يشير إلى أن ألمانيا سوف تكون أحد أركان النظام الدولي قيد التشكيل، لا سيما بعد زيادة إنفاقها العسكري، وتطوير قدراتها العسكرية في ضوء تصورها للتهديد الروسي. ومنهم من يشير إلى فرنسا والمملكة المتحدة، كونهما قاسماً مشتركاً في أي نظام للقوى الكبرى. ومنهم من يضيف الهند والبرازيل.

*خبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية