لم يكن مفاجئاً أن تتصدّر دولةُ الإمارات العربية المتحدة الدولَ العربيةَ في عدد العناصر المسجلة ضمن «التراث الثقافي غير المادي» على قائمة «منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة» (اليونسكو)، إذ يأتي هذا الإنجاز الإماراتي محصِّلةً لرؤية واضحة من القيادة الرشيدة التي عدّت الثقافةَ رافعةً اجتماعيةً وسياسيةً واقتصاديةً، وجزءاً من البناء المستدام والشامل لعوامل قوة المجتمع وحيويته وتطوُّره، ولجهود الجهات والمؤسسات الإماراتية التي اضطلعت بهذه المهمة.
«التراث غير المادي» أحد العناصر التي تعكس ثراء المجتمعات وحيويتها، وتعبِّر عن العناصر المميزة لهوية الشعوب والمجتمعات البشرية، وتصل الماضي بالحاضر، ذلك أن التقاليد الثقافية والاجتماعية وأشكال النشاط الإنساني التي تسود في مجتمعٍ ما إنما تُعبِّر عن الوجدان الجمعي الذي استطفاها جيلاً بعد جيل، عبر تفاعله مع المكان والزمان والسياقات التي تتحرك فيها حياتُه وتتشكل فيها شخصيتُه. 
وتُمثّل عناية دولة الإمارات بتراثها غير المادي، والعمل على تسجيله والتعريف به عالميّاً، وعياً بقيمة الجذور في ثبات التوجه نحو المستقبل، وإدراكاً لمركزية الهوية الوطنية في إنجاز المهمة الحضارية والدور الإقليمي والعالمي الذي تضطلع به. ولقد أكدت تجربةُ دولة الإمارات أن الترسيخَ المتبصر للهوية الوطنية، في إطار من احترام قيم التنوع والتعددية الذي تحرص عليه الدولة، إنما يساعد على فهم الهويات الأخرى وتقبُّلها والتفاعل الخلاق معها.
لقد أتاحت عناية الدولة بعناصر تراثية مثل «السدو» و«التغرودة» و«المجلس» و«الصقارة» و«العازي» -التي أُدرجت ضمن قائمة اليونيسكو -للأجيال الجديدة فرصةً لتواصل الإبداع الفني الذي يسري في نفوسهم، وإدراك الطريقة التي أضفى بها أسلافُهم الجَمالَ والقيمةَ المضافةَ على متطلّبات حياتهم اليومية، فلم يكن «السدو» مجرد نسج للخيوط لتوفير الملبس من مصادر طبيعية فحسب، بل كان أيضاً إضافةً جمالية تمثلت في إنتاج قطع فنية فريدة تَستخرج مكنون الإبداع الفطري، وتجعل منه ممارسة يوميةً. ولم تكن «الصقّارة» مجرد مصدر للغذاء في ظروف صعبة، بقدر ما كانت منظومة كاملة من قيم الانسجام مع الطبيعة والتنافس الشريف في شحذ الطاقات والقدرات الإنسانية، وفق تقاليد طوّرتْها الجماعةُ وارتضتها. وفي هذه المعاني، يبدو مفهوم «الحضارة» جليّاً.
وحين تضع دولة الإمارات هذه العناصر أمام أعين العالَم، فإنها لا تُضيف نقاطاً إلى صورتها وعمقها الحضاري فحسب، بل تضيف أيضاً إلى محيطها العربي والخليجي الذي يشترك معها في بعض هذه العناصر، وتحفِّز الدولَ العربيةَ والخليجيةَ على فعل الشيء نفسه، وتوجيه المزيد من العناية إلى تعريف العالَم بتراثها الخصب وتقاليدها الثقافية الثرية، وما أحوجنا جميعاً إلى ذلك!

عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية