•    لقي رجل حكيماً فقال: كيف تَرَى الدهر؟ قال: يُخْلِقُ الأبدان، ويجدِّدُ الآمال، ويقرِّبُ المَنِيَّة، ويُباعِدُ الأُمْنِيّة. قال: فما حالُ أهله؟ قال: من ظَفَرَ به منهم تَعِب، ومن فاتَه نَصِب. قال: فما الغنى عنه؟ قال: قَطعُ الرجاء منه. قال: فأيُّ الأصحاب أَبرُّ وأَوْفى؟ قال: العمل الصالح والتقوى. قال: أَيُهُم أَضَرُّ وأَرْدَى؟ قال: النفس والهوى. قال: فأين المخرج؟ قال: سلوكُ المَنهَج. قال: وما هو؟ قال: بَذْلُ المجهود، وتركُ الراحة، ومداومة الفكرة. قال: أَوْصِني. قال: قد فعلت!

•    وقال بعض الملوك لحكيم من حكمائه: عِظْني بعِظَةٍ تنفي عني الْخُيَلاء، وتُزهِّدُني في الدنيا. قال: فَكِّر في خَلْقِك، واذْكُر مَبدَأك ومَصِيرك، فإذا فعلت ذلك صَغُرَتْ عندك نفسُك، وعَظُم بصغرها عندكَ عَقْلُك، فإن العَقلَ أنفعهُما لك عِظَماً، والنفس أَزْينهُما لك صِغَراً، قال الملك: فإن كان شيء يُعِينُ على الأخلاق المحمودة فصفتك هذه. قال: صفتي دليل، وفَهْمُك محجَّة، والعلم عليّة، والعمل مَطيّة، والإخلاص زمامها، فخُذْ لعقلك بما يزيّنه من العلم، وللعلم بما يَصُونُه من العمل، وللعمل بما يحقّقه من الإخلاص، وأنت أنت. قال: صدقت.

•    أوصى بعض الحكماء صديقاً له، وقد أراد سفراً، فقال: إنك تدخل بلداً لا يعرفك أهله، فتمسّك بوصيتي، تنفق بها فيه: عليك بحسن الشمائل، فإنها تَدُلُّ على الحرية، ونقاء الأطراف فإنها تشهد بالملوكية، ونظافة البرّة فإنها تنبئ عن النّشء في النّعمة، وطيب الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك، وقولك دون فعلك، ولباسك دون قدرك، والزم الحياء والأنفة، فإنك إن استحييت من الغضاضة اجتنبت الخساسة، وإن أنفت عن الغلبة، لم يتقدمك نظير في مرتبة.

•    قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يوصي آخر أراد سفراً، فقال: آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك، وليكن عقلك وزيرك الذي يدعوك إلى الهدى، ويجنّبك من الرّدى، واحبس هواك عن الفواحش، وأطلقه في المكارم، فإنك تبرّ بذلك سلفك، وتشيد به شرفك.

•    وأوصت أعرابية ابنها في سفر، فقالت: يا بني، إنك تجاور الغرباء، وترحل عن الأصدقاء، ولعلّك لا تلقى غير الأعداء، فخالط الناس بجميل البِشْر، واتّق الله في العلانية والسرّ.

•    قال بعض الملوك لحكيم وقد أراد سفرا: قفني على أشياء من حكمتك أعمل بها في سفري، فقال: اجعل تأنيك أمام عجلتك، وحلمك رسول شدّتك، وعفوك مالك قدرتك، وأنا ضامن لك قلوب رعيّتك، ما لم تحرجهم بالشدة عليهم، أو تبطرهم بالإحسان إليهم.

•    قال أبان بن تغلب: شهدت أعرابية توصي ولداً لها أراد سفراً، وهي تقول: أي بُنَيّ! اجلس أمنحُكَ وصيتي، وبالله توفيقك. قال أبان: فوقفت مستمعاً لكلامها، مستحسناً لوصيّتها، فإذا هي تقول: أي بُنَيّ اجلس أَمْنَحَك وصيَّتي، وبالله توفيقُك، فإن الوصية أَجْدَ عليك من كثير عقلك. إياك والنَّميمة فإنها تزرع الضغينة، وتُفَرِّق بين المحبِّين، وإياك والتعرض للعيوب فَتُتَّخَذَ غَرَضاً، وخَلِيق أن لا يثبت الغرض على كثرة السِّهام، وقلما اعتورت (أي أصابت) السِّهام غرضاً إلا كَلَمَته (أي جرحته) حتى يَهِيَ (أي يضعف) ما اشتد من قوَّته، وإياك والجود بدينك، والبخل بمالك، وإذا هززت فاهزُز كريماً يلين لهَزَّتك، ولا تهزُز اللئيم فإنه صخرة لا يتفجر ماؤها، ومَثِّل لنفسك مِثَال ما استحسنْتَ من غيرك فاعَمل به، وما استقبحتَ من غيرك فاجْتَنِبْه، فإن المرء لا يرى عيبَ نفسه، ومن كانت مودَّته بِشْرَه، وخالَف ذلك منه فعله، كان صديقه منه على مِثل الريح في تصرُّفها. ثم أمسَكَت (أي توقفت)، فدنوتُ منها، فقلت: بالله يا أعرابية إلَّا زِدْتِه في الوصية، فقالت: أوقد أعجبك كلام العرب يا عراقي؟ قلت: نعم. قالت: والغَدْرُ أقبح ما تعامل به الناس بينهم، ومن جمع الحِلْم والسَّخَاء فقد أجاد الحُلَّة (اللباس): رَيْطَتها وسِرْبَالَها.

* السفير السعودي لدى الإمارات.