الإنجازات الأخيرة التي حققتها وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» وعملاقا التكنولوجيا «مايكروسوفت» و«غوغل» تقدِّم دليلاً واضحاً بشأن سبب بقاء هذه المؤسسات قويةً ومؤثِّرةً للغاية على الساحة الدولية. فقد نشرت «ناسا» مؤخراً أحدثَ صور دراماتيكية التقطها تليسكوب «ويب» الذي يستطيع رصدَ أبعد المجرات. وكل يوم يقدّم «ويب» دليلاً جديداً حول أصل الكون يغيّر المبادئ الأساسية للعلوم الفيزيائية. وفي سياق مماثل، تعلن شركاتٌ أميركيةٌ للتكنولوجيا الفائقة عن برامج جديدة تُظهر أن جهودَها الرامية لتسخير الإمكانات غير العادية للذكاء الاصطناعي ستغيّر كل شيء تقريباً يَحدث في العالَم. وفي هذين المجالين يظل تفوق العلوم والتكنولوجيا الأميركية قوياً بدون منازع. 
وفي المقابل، أصبحت مؤسسات مسؤولة عن الحكامة اليومية، مثل الأمن القومي والاقتصاد والقضاء، ناقصة وضعيفة على نحو يرثى له، وما لم يتم إصلاحها، فإنها ستتسبب في عواقب وخيمة ليس للمجتمع الأميركي فحسب وإنما للبيئة السياسية والاقتصادية العامة أيضاً. فاليوم، يبدو الكونجرس الأميركي عاجزاً عن الموافقة حتى على أبسط المهام، بما في ذلك رفع سقف الدين الأميركي الذي يُعد ضرورياً لتجنيب البلاد حالةَ التخلف عن السداد. وهذه الحالة الأخيرة يمكن أن تؤدي إلى أزمة مالية ذات عواقب خطيرة بالنسبة للاقتصاد العالمي. والمشكلة هي أن الرئيس «الجمهوري» الجديد لمجلس النواب كيفن ماكارثي يمتلك أغلبيةً هزيلة، وهو مَدين للمتشددين في حزبه الذين يتخذونه رهينةً لمطالبهم، وفي مقدمتها أن يقوم الرئيس بايدن وإدارته بتقليص إنفاق الحكومة الأميركية قبل أن يوافقوا على دعم تخفيف الديون. والمأزق بالنسبة لـ«الجمهوريين» هو أن زعماءهم اتخذوا قراراً ضد خفض ميزانية الدفاع والضمان الاجتماعي و«ميديكير».. وهي البرامج الأغلى والأكثر كلفةً. وهذا يعني أن التقليص يجب أن يأتي من برامج تساعد الكثيرَ من ناخبيهم الذين يعيشون في ولاية يسيطر عليها الجمهوريون («الولايات الحمراء»). وإلى أن يتفق الجمهوريون في ما بينهم على خطة عمل، فلا شيء سيحدث، وربما تتجه البلادُ نحو كارثة غير ضرورية. 
المقلق أيضاً هو فقدان الثقة المتزايد من قبل الجمهور في نظام العدالة الأميركي، بما في ذلك المحكمة العليا. فقد أفادت تقارير إخبارية بأن القاضي كلارنس توماس، العضو الأسود اليميني في المحكمة، تلقّى هدايا سخية جداً من ملياردير محافظ من تكساس، لكنه لم يصرح بها ضمن بيانات الكشف المالي السنوية المطلوبة، وهو ما دفع الكثيرين للمطالبة باستقالته من منصبه. كما انخرطت زوجته في جهود تهدف إلى قلب نتائج انتخابات عام 2020 والإبقاء على دونالد ترامب رئيساً للبلاد. وفضلاً عن ذلك، حاول قاضٍ فدرالي يميني في تكساس أن يحظر على الصعيد الوطني بيعَ حبوب تستخدمها النساء اللاتي يسعين إلى إنهاء الحمل. 
وعلاوة على ذلك، تم خلال الآونة الأخيرة اكتشاف أسوأ تسريبات أمنية قومية منذ عدة سنوات، مما أضر بعلاقات الولايات المتحدة مع العديد من حلفائها. وتَعقُّب مصدر التسريبات أوصل المحققين إلى ضابط في القوات الجوية في سن الحادية والعشرين استطاع الوصول إلى آلاف الوثائق شديدة الحساسية. وأثارت هذه الأزمة مخاوفَ حقيقية بشأن كيفية تدبير وزارة الدفاع لعملية توزيعها لمواد سرية. 
وخلاصة القول هي إن الهوة بين كفاءة وفعالية وكالة «ناسا» وشركات التكنولوجيا الخاصة، من جهة، وأهم المؤسسات الفدرالية، من جهة ثانية، كبير جداً. وإذا لم يتم إيجاد طرق لتحسين الحكامة في واشنطن، فإن مكانة الولايات المتحدة ونفوذها سيتضرران كثيراً في الوقت الذي تتطلب فيه الأزمات الدولية بشأن أوكرانيا والشرق الأوسط وشرق آسيا كفاءةً عاليةً وقيادةً منسجمةً. ويجب أن يشمل هذا طرقاً لتحسين العلاقات مع الصين التي باتت المنافس الرئيس للدور العالمي لأميركا الآن. فالقوتان العظميان في حاجة للعمل معاً إذا كان يراد لتهديدات الحرب وسباق التسلح النووي والذكاء الاصطناعي وتغير المناخ والأوبئة والسياسات التجارية.. أن تدار من خلال التعاون بدلاً من المواجهة. 

*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز ناشيونال إنترست -واشنطن