شهد العالم خلال السنوات الأخيرة تزايد الحروب والنزاعات المسلحة، وظهور جماعات إرهابية تتعمد بهدم التراث الثقافي وتدميره، كأساليب للترويج لأجنداتها المتطرفة، كما ازداد خطر التخريب والإهمال للتراث الثقافي، أو الاستهداف المسلح الذي يُحدث أضراراً مباشرة بحق الآثار والمباني التاريخية.

ومن الجرائم المرتكبة بحق الآثار، تدمير حركة «طالبان» في أفغانستان العديد من التماثيل البوذية في «باميان»، وهي جزء من التراث العالمي، دون إدراك أن بعض الشعوب قبل أن تصبح مسلمة كانت لها أديان ورموز ثقافية لا ينبغي السماح بتدميرها، كونها ملكاً للحضارة الإنسانية.

ومن الأمثلة المؤلمة على استهداف التراث الثقافي المادي، ما حدث في العراق عندما دمر تنظيمُ «داعش» العديدَ من المواقع الأثرية، مثل مدينة نينوى ومتحف الموصل، في محاولة لمحو ما يرمز لحضارة العراق وتراثه، إضافة إلى ما نهبه التنظيم من قطع أثرية ثمينة باعها لتمويل عملياته.

وفي سوريا تضررت مدينة تدمر التاريخية وتعرضت للتخريب على يد «داعش» أيضاً، وفي ليبيا تعرضت مدينة صبراتة الرومانية، التي تحتوي على أكبر مجموعة من التماثيل في شمال أفريقيا، للنهب والتخريب.. والأمثلة كثيرة قديماً وحديثاً.

وهناك بعض المبادرات الإقليمية والدولية التي انطلقت بغرض حماية التراث الإنساني الثقافي من النزاعات والحروب، ودولة الإمارات من الداعمين لهذه المبادرات التي تهدف لحماية التراث وإعادة إعماره وتعزيز قيمته، ومنها صندوق التحالف الدولي لحماية التراث في مناطق النزاع (ألف) الذي تأسس بمبادرة من الإمارات وفرنسا، ويضم 14 دولة بهدف تمويل مشاريع لحماية وإنقاذ التراث الثقافي المهدد أو المتضرر في مناطق النزاع.

وقد دعم الصندوقُ حتى الآن مبادرات بقيمة 50 مليون دولار في أكثر من 30 بلداً. وهناك المشروع العالمي لإحياء روح الموصل، الذي تدعمه الإمارات أيضاً بهدف إعادة إعمار مدينة الموصل التاريخية، وما لحق بها من أضرار أثناء سيطرة «داعش».

واتساقاً مع هذه الجهود، طرحت البعثة الدائمة للإمارات في الأمم المتحدة قضية حماية التراث الثقافي أثناء النزاعات المسلحة أمام أعضاء مجلس الأمن، في الاجتماع الذي ترأسته الإمارات قبل أيام بالشراكة مع فرنسا وإيطاليا وقبرص، بصيغة «آريا»، وهي صيغة اجتماعات ذات طابع غير رسمي تتصف بالسرية، لكنها تتيح لأعضاء مجلس الأمن تبادلَ الآراء حول القضايا العالمية ذات الحساسية العالية بلغة صريحة ومباشرة، فما تفعله الحروب والنزاعات بالإرث الإنساني في بعض المناطق يعد قضية حساسة بالفعل، ويتطلب جهوداً عالمية للتعاون وضمان تحييد التراث الثقافي على مستوى المباني التاريخية والمتاحف والآثار والتماثيل والنصب التذكارية، لحمايتها من أخطار النزاعات.

وما طرحته بعثة الإمارات يضع أمام المجتمع الدولي مسؤوليةً كبرى تجاه هذه الإشكالية، حيث ما يزال عالمنا اليوم يشهد العديد من النزاعات المسلحة، التي تتسبب في تدمير كنوز من التراث الثقافي والتاريخي، في خسارة كبيرة لتراث الحضارة البشرية وما يعبر عن تاريخ وثقافة وهوية بعض الشعوب.

لكن حماية التراث الثقافي والآثار من أخطار الحروب والنزاعات ما تزال بحاجة إلى قوانين دولية واضحة وفعالة، تحمي هذا التراث من التدمير والنهب والتهريب، ويمكن إصدار قرارات دولية ملزمة تحظر تدمير المواقع الأثرية، مع تفعيل الاتفاقيات القائمة بالفعل، مثل اتفاقية «لاهاي» لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح، الموقعة منذ عام 1954، وغيرها من الاتفاقيات التي ما تزال تواجه تحديات في التطبيق، وينقصها التعاون والتنسيق بين الدول والمنظمات، وتعزيز التشريعات المحلية والدولية المتعلقة بحماية التراث الثقافي، واستخدام الأقمار الاصطناعية والتصوير الجوي والذكاء الاصطناعي، لتحديد المناطق التي تجري فيها أعمال النهب والتدمير، والعمل على منعها.

*كاتب إماراتي