تعمل الديناميكيات الجديدة والعلاقات بين دول الشرق الأوسط على تغيير البيئة الاستراتيجية والسياسية، بدءاً بتصفير الخلافات وتوسيع نطاق التحالفات دون وساطات أو نفوذ أو مقايضات سياسية، فالسلام في الشرق الأوسط بات يُصنع بجهود دبلوماسية فاعلة من قيادات بعض الدول التي تنظر لمستقبل المنطقة بعين ثاقبة، بوصلتها السلام والاستقرار والرفاه فقط، فلم تعد الولايات المتحدة -مثلاً- المحرك الرئيسي في الرهانات الأمنية في الشرق الأوسط، أو كما قال أحد محللي الشؤون الإقليمية الشرق أوسطية فإن «دول المنطقة تصنع السلام من دون واشنطن».

وفي السنوات الخمس الأخيرة شهدت منطقة الشرق الأوسط حراكاً دبلوماسياً كبيراً نحو الانفكاك من الحليف الواحد إلى تعدد الحلفاء، وقد أمست نظرية انكماش هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أمراً واضحاً وجلياً، مقابل أولويات دول المنطقة في التحول التاريخي (الحتمي) نحو مصالحها الاقتصادية والأمنية والالتفاف حول حلفاء أكثر ضماناً وأسهل تعاملاً، لكفالة مصالحها الاستراتيجية وتحسين دفاعاتها وصيانة مقدراتها دون خسائر.

ومن هذا المنطلق، فقد شهدت المنطقة - وخصوصاً في الخليج - سرديةً جديدة للسلام وجهوداً دبلوماسية كبيرة أفضت إلى عدد من الانفراجات السياسية وإلى نتائج فورية، كانفراجة الخلاف بين دول الرباعي العربي وقطر، وعودة الدفء للعلاقات مع تركيا، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بعد سبع سنوات من القطيعة والتوتر، وبالتالي ستتراجع حرب الوكالة في اليمن مع وجود مؤشرات انفراجة قريبة، إثر مبادرات تبادل الأسرى الأخيرة والتفاهمات المرتقبة لتمديد الهدنة ورسم مستقبل البلاد ما بعد الحرب.. وأخيراً عودة سوريا إلى حضنها العربي بعد جهود دبلوماسية مكثفة.

وهذا إلى جانب التقارب الكبير الذي تضاعف مؤخراً بين دول الخليج والعراق. وكل هذا قد يسهِّل إمكانيةَ الوصول إلى حلول في لبنان وعودته هو أيضاً إلى حضنه العربي الآمن. لا شك في أن هناك انسداداً لآفاق حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كأكبر قضية تشغل الرأي العام العربي، إذ ارتبط مصطلح السلام في الشرق الأوسط بالقضية الفلسطينية، والسلام في المنطقة يبقى ناقصاً دون إنهاء هذا الصراع الذي يقتضي في حال إنهائه إدماجَ إسرائيل ضمن دول المنطقة، كما بدأ يلوح في الأفق.

وبحسب قراءات تحليلية لواقع المنطقة وميلها المتزايد إلى السلام وحراكها المستمر نحوه، فمن الواضح اليوم أن الدور الأكبر في إحلال السلام وفي تهدئة التوترات هو الدور الخليجي الفاعل الذي يرسم ملامح أخرى للسلام وإنهاء الصراع بكسب جميع الأطراف والبدء بتهيئة الأجواء الملائمة للحوار، وبالتالي خلق الحلول الاستراتيجية الفاعلة التي ستعود على المنطقة جميعاً بالسلام والأمن والتنمية.

لذا فثمة آراء تؤكد على أن توسيع اتفاقيات السلام العربية مع إسرائيل من شأنه أن يدفع العملية قدماً إلى حلول مبتكرة وفاعلة وغير مسبوقة. يقول سفين كوبمانز، مبعوث الاتحاد الأوروبي لعملية السلام في الشرق الأوسط، إن العملية تحتاج إلى طاقة وأفكار جديدة وأشخاص شجعان وفق ما أسماها «الهندسة العكسية للسلام». ومع وجود الطاقة والجهود والشجاعة لدى قيادات الخليج، فإن عملية السلام بسرديتها الشجاعة ستتبلور انطلاقاً من الخليج.

*كاتبة سعودية