استحوذت بلدان أوروبا الغربية على 40% من إجمالي التجارة العالمية في مطلع القرن، لكنها تمثل اليوم 30% فقط ومعظمها داخل أوروبا. ومن الواضح الآن وبشكل جليّ أن قادة أوروبا يتلقون القليل جداً من الامتيازات داخلياً لتبنيهم أو للترويج لأفق دولي خارج حدود القارة، كما ثبت مؤخراً في المملكة المتحدة وفرنسا. 

وعلى الرغم من محاولات القيادات الأوروبية تقديم نفسها كرجال دولة عالميين يتفوقون على صراع السياسات الداخلية الضيقة، فإن الواقع السياسي في القارة الأوروبية لا يدعم ذلك الادعاء. والحقيقة أن الحكومات الأوروبية فقدت مهارتها في التملّص من الضغط الوحشي لأولويات الأجندات الوطنية الداخلية، وهي إشارة تحذيرية للدول التي تتطلع إلى القوى الأوروبية كشركاء أمنيين محتملين، بما أن القضايا المحلية في أوروبا كالاجتماعية والاقتصادية على حد سواء، قد أصبحت الآن جوهرية لدرجة أنها تطغى على أية تطلعات دولية، ولا سيما تلك التي قد تلبي احتياجات البلدان النائية.
وفي الواقع حتى لو كانت هناك رغبة واستعداد صادقين للعب دور عالمي لدى القادة الأوروبيين، إلّا أن أوروبا لم تعد تمتلك القوة الاقتصادية لدعم القوة اللازمة لممارسة مثل هذه التحركات وفرض أي نوع من النفوذ المؤثر، ولا يقتصر الأمر على كون اقتصادات أوروبا تحت الضغط اليوم فحسب، بل إن آفاقها آخذة في التدهور، حيث أدى على ما يبدو التركيز السياسي الشامل على إعادة توزيع الثروة بدلاً من تكوين الثروة إلى تشوهات هيكلية سلبية ومركبة على حد سواء، وتشهد اقتصادات المنطقة ركوداً متزايداً كما يتضح من التحسينات الباهتة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد الماضي.
وعلى الرغم من كل الحماسة بشأن زيادة المخصصات الدفاعية رداً على العدوان الروسي على أوكرانيا، فإنها ستعالج جزئياً نقص الاستثمار متعدد العقود في القوات المسلحة للقارة فقط. وفي الوقت نفسه لن تغير مادياً الامتداد العالمي لهذه الجيوش ولا قدرتها على المساهمة في ميزان القوى المتطور على الصعيد العالمي، والدول التي تأمل في أن تتمكن الدول الأوروبية من أن تكون بمثابة ثقل موازن وموازٍ لقوة الصين المتنامية ستصاب بخيبة أمل، والأهم من ذلك أن نزوح أوروبا من آسيا سيكون أول تمزق جوهري، حيث ينقسم العالم إلى ثلاثة تكتلات اقتصادية وسياسية إقليمية. ولم يبق لأوروبا خيارات مجال حيوي واسع للمناورة فيه، والدليل استبدال النفوذ الإقليمي لروسيا تدريجياً بوجود الصين. وعندما يدعّي الاتحاد الأوروبي أنه أكبر مستثمر في آسيا الوسطى على سبيل المثال، فإنه أكبر مستثمر في كازاخستان فقط، وهي أكبر اقتصاد في المنطقة وقد تم توجيه معظم الاستثمارات الأوروبية هناك نحو قطاع الطاقة، وبالرغم من أن كازاخستان أقل اعتماداً على الصين مقارنةً بالدول الأخرى في آسيا الوسطى، إلّا أن الصين لا تزال أكبر شريك تجاري للبلاد.
فعندما نصنف دولة أو تكتل قاري على أنه قوة عالمية، فهذا يعني القدرة على جعل الفاعلين الآخرين يتصرفون بالطرق التي تريدها تلك القوة البارزة، ولم يكن التدخل الروسي في أوكرانيا أزمةّ أمنيةّ فقط، بل كشف مجموعة من نقاط الضعف التي تمس الاتحاد الأوروبي بصورة مباشرة، وخاصةً فيما يتعلق بالأمن الغذائي والطاقة والردع الاستراتيجي والدفاع، وهنا يتضح أن الاتحاد الأوروبي لربما يحتاج إلى إعادة النظر في آفاق استقلاليته الاستراتيجية بين النظرية والواقع، إلى جانب معالجة فجوة التكنولوجيا في أوروبا، وما لم تلحق أوروبا بالمناطق الرئيسية الأخرى بشأن التقنيات الرئيسية، فإنها ستكون معرضة للخطر في جميع القطاعات فيما يتعلق بالنمو والقدرة التنافسية، مما يهدد سجل المنطقة القوي نسبياً في الاستدامة والسياسات الشاملة، فضلاً عن الأمان والقوة الاستراتيجية، مما يعيق المرونة على المدى الطويل.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات