تتسارع التغيرات المترتبة على الحرب الروسية الأوكرانية، مدفوعةً بتطورات موضوعية وتراكمات تاريخية من الضروري إعادة النظر فيها لتتلاءم والمستجدات الاقتصادية والجيوسياسية، حيث يأتي تَوجُّه دولٍ مهمةٍ نحو الانضمام إلى مجموعة «بريكس» التي تضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، كأحد أهم هذه التغيرات.

وقد أعلن وزير الخارجية الروسي، في منتدى سان بطرسبرج الاقتصادي، أن كلاً من الإمارات والسعودية ومصر والجزائر مرشحة للانضمام إلى «بريكس»، كما أن هناك دولاً أخرى مثل المكسيك والأرجنتين وإندونيسيا أعربت عن رغبتها في الانضمام لهذا التكتل، حيث يدور الحديث عن توجه فرنسي أيضاً لاكتساب عضوية «بريكس». ما أسباب هذا التوجه الذي تسارع بصورة ملحوظة في الأشهر الماضية؟ وما تداعياته؟

الأسباب والتداعيات كثيرة وستُغيِّر جذرياً النظامَ العالَمي، ويمكن التطرق هنا إلى بعضها: أولاً، يعبِّر النظامُ الاقتصادي الحالي والأنظمةُ والتشريعات التي تديره عن موازين القوى بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت أوروبا منهارةً اقتصادياً، بما فيها روسيا (أو بالأحرى الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت)، في حين كانت الدول النامية إما أنها متخلفة اقتصادياً أو نها ترزح تحت الاستعمار، ما يعني أن النظام الحالي يعكس موازينَ القوى قبل ثمانين عاماً، وبالتالي فهو غير قابل للاستمرار في ظل الأوضاع الحالية.

ثانياً، نتيجة لهذه التغيرات لم يعد العالَم يتحمّل نظام القطب الواحد مالياً واقتصادياً، والذي تسبب في مشاكل وتجاوزات خطيرة، بعضها مهني يتعلق بالنظام النقدي الخاص باتفاقية «بريتون وودز»، والذي تم التخلي عنه في عام 1971، مما أطلق العنانَ لطباعة الأوراق المالية، وبالأخص الدولار، دون ضوابط أو التزامات محددة محلياً ودولياً.

ثالثاً، نظراً لهذه الهيمنة، فقد استُخدمت بعضُ الأدوات المالية والنقدية بصورة سيئة للغاية، مثل العقوبات الاقتصادية، ما ألحق ضرراً بالغاً بالأوضاع المالية والتجارية في العالم، وأدى إلى عرقلة الكثير من المشاريع التنموية المشتركة.

أثارت هذه التغيراتُ التي أشرنا إليها بصورة مختصرة استياءَ الكثير من الدول التي لم تعد تقبل استمرار الأوضاع الحالية، وهي تعمل لإيجاد البديل الكامن في تعدد مراكز النظام المالي والنقدي الدولي، ولتجاوز نظام المركز الوحيد الذي يتحكم في مجمل التفاعلات المالية، حيث تجد الدول كافة، بما فيها أعضاء الاتحاد الأوروبي، بأن لها مصلحة حقيقية في إيجاد نظام متعدد الأطراف.

وهنا تأتي مسألة انضمام بعض دول العالَم إلى «بريكس» الذي يطرح البديلَ، على اعتبار أنه القادر على إحداث هذا التغيير بفضل القوة الاقتصادية والنفوذ الجيوسياسي الذي يتمتع به أعضاؤه، باعتبارهم أيضاً أعضاء في مجموعة G20، خصوصاً بعد أن أعلنت دول «بريكس» برنامجاً يهدف إلى تحقيق أهدافها الخاصة بعالم متعدد الأقطاب مالياً ونقدياً من خلال توجهين مهمين، أولهما الاعتماد في تبادلاتها التجارية على عملاتها الوطنية، وقد قطعت شوطاً مهماً في هذا الصدد، بل وانضمت إلى هذا التبادل دولٌ أخرى من خارج التكتل، وثانيهما النظر في إمكانية إصدار عملة دولية للتداول وفق نظم وتشريعات نقدية لا تسمح بالهيمنة لأي طرف، مما يمنح الجميعَ حقوقاً وامتيازاتٍ متساويةً.

ومع التأكيد على أن هذه التوجهات ستحتاج إلى بعض الوقت، كما ستواجه بعض الصعوبات، فإنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى إيجاد نظام مالي واقتصادي متعدد الأقطاب وأكثر إنصافاً وفائدةً للنظام العالمي ككل، دون هيمنة من أي طرف، فبالإضافة إلى الدولار، سيكون هناك اليورو واليوان وعملة التداول المشتركة لمجموعة «بريكس»، وربما العملة الخليجية الموحدة إذا ما تمكّنت دول مجلس التعاون من تجاوز العقبات التي تواجه إصدار هذه العملة.

وفي هذه الحالة، فإن النظام الجديد سيعبِّر عن موازين القوى الاقتصادية الحديثة وسيزيل التناقض بين النظام المالي والنقدي الحالي الذي تَجاوزه الزمنُ وبين مراكز القوة الاقتصادية التي أُعيد ترتيبُها في العقدين الماضيين، ليتشكَّل نظامٌ اقتصاديٌ عالميٌ أكثر عدلاً واتزاناً.

*خبير ومستشار اقتصادي