لا تشير الأمور الأولية والوساطة من بيلا روسيا بين القوات المسلحة الروسية ومجموعة فاجنر إلى أن الأمور ستمضي في طريقها وستتم بصورة جيدة في الفترة المقبلة، والإشكالية ليست لها علاقة بإنصات مجموعة فاجنر إلى تعليمات وزير الدفاع وغيرها مما يساق، بل الأمر مرتبط بقدرة مجموعة «فاجنر» على العمل مجدداً في مسرح العمليات في أوكرانيا وخارجها.

فالشركة ليست شركة أمن أو دفاع، بل لديها قدراتها وإمكانياتها الكبيرة بما لديها من سلاح نوعي وقدرات حركية كبيرة تتجاوز شركات الأمن التقليدية التي تنتشر في إنحاء العالم، والتي بدأتها الولايات المتحدة من سنوات، وهذا يؤكد أن ما دار مؤخراً سيكون جزءاً من كل مرتبط بالفعل بحضور كبير لشركة فاجنر في الداخل الروسي وخارج روسيا، وأن صراعاتٍ كبرى تتم في سياقات كبيرة مرتبطة بعدم القدرة على تصفية الشركة أو إنهاء وجودها، فقد تجاوزت ذلك منذ سنوات طويلة، خاصة وأن الأمر سيحتاج إلى مراجعة علاقات الشركات والميليشيات الداعمة لروسيا في سياقها الكبير في الفترة المقبلة، ما يؤكد أن الخلافات الشخصية الكبيرة داخل المؤسسة العسكرية الروسية من الصعب حسمها وأن مهندس ما يجري هو الرئيس الروسي بوتين شخصياً والقادر على التعامل مع الجنرالات الكبار في الجيش الروسي، فالرجل الذي شغل من قبل مواقع استخباراتية عليا قادر على الحسم، ويستطيع القيام بتغييرات كبيرة في الفترة المقبلة، خاصة وأن الاستقرار الأمني مهم ومنشود داخل روسيا للتفرغ لسير العمليات في أوكرانيا، وهي الأساس خاصة مع حجم ما تواجهه روسيا من تطورات مفصلية وهجوم مضاد من أوكرانيا.

ومع اتساع نطاق العمليات العسكرية لصالح أوكرانيا بعد إعادة توجيه الدعم الغربي غير المسبوق للقدرات الأوكرانية، ستتجه روسيا لإعادة بناء شراكات متماسكة ليس مع مجموعة «فاجنر»، بل مع سائر المجموعات الأخرى التي التحقت بمسار المواجهات الراهنة، وعلى رأسها مجموعة «أحمد الشيشان»، والتي قد يكون لها دور رئيسي ومركزي في الفترة المقبلة، وفي ظل إعادة تصويب المسار داخل المؤسسة العسكرية الروسية والتي تتعامل من منطق مباشر ارتكاناً للحاجة للاستقرار الأمني داخل المؤسسة العسكرية الروسية بصرف النظر عن إجراء تغييرات أو تأجيلها لبعض الوقت.

وهناك تحفظات من داخل المؤسسة على ما يجري في مسار العمليات العسكرية بأوكرانيا واستمرارها، بل والمطالبة بإقامة مناطق آمنة وحسم الآمر من جانب واحد على غرار ما جرى مسبقاً في سيناريو ضم شبه جزيرة القرم، ما يعني في مجمله عدم المضي في سيناريو الحرب، الأمر الذي قد يواجه الكثير من الإشكاليات في ظل تمدد العمليات ودخولها مرحلة جديدة.

وبرغم الرهانات الروسية بالقدرة على التماسك وعدم الانقسام فإن كل الشواهد الغربية المتابعة تشير إلى عكس ذلك، ولكن ما جرى مع مجموعة فاجنر مرشح بقوة للتكرر مع المجموعات الأخرى، وأن الجيش الروسي سيدخل في مواجهات استباقية مفتوحة للسيطرة على المشهد الحالي، والذي ما زال هشاً في انتظار ما هو قادم من تطورات حقيقية ومفصلية ستحسمها سيناريوهات أخرى بصرف النظر عن التطورات الراهنة، ليس في مسرح العمليات في أوكرانيا، ولكن في مسارح أخرى، حيث تتواجد مجموعة فاجنر دفاعاً عن المصالح الروسية.

ومن المرجح أن تمضي المؤسسة العسكرية في اتجاه التهدئة مع هذه المجموعات وقد يقوم الرئيس بوتين بتبني حزمة إجراءات هيكلية حقيقية تتجاوز حسم الخلافات الشخصية الراهنة بين قيادات مجموعة «فاجنر»، والقادة الكبار في هيئة الأركان الروسية، والتي أبدت كثير من الملاحظات على خطط مجوعة فاجنر في أوكرانيا وخارجها، وفي كل الأحوال سيظل السؤال مطروحاً.. كيف سينعكس ما يجري على الحرب في أوكرانيا وما هو رد فعل الدول الأوروبية والإدارة الأميركية على ما يجري للتعرف على السيناريو القادم في روسيا بصرف النظر عن المقايضات الكبيرة التي تطرح وتساق في هذا الإطار وتشمل التكهن بما هو وارد في إطار علاقات مجموعة فاجنر بالمؤسسة العسكرية الروسية، والتي تملك ميراثاً كبيراً من الخبرات المتراكمة والقادرة على التعامل مع أية تطورات سلبية في هذا الإطار سواء مع مجموعة فاجنر أو غيرها.

وينبغي التأكيد على أن الخلاف الحقيقي كان مع الرجلين المسؤوليْن عن الحرب في أوكرانيا وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد القوات المسلحة فاليري غيراسيموف، وليس بين الرئيس بوتين وقائد فاجنر، مع التأكيد على أن هذا الموقف المتوتر يمثل إشكالية للجيش الروسي حتى مع انتهاء الأزمة الراهنة، ولو في مستواها الشكلي.

* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.