تبدو قرية في السافانا القاحلة لغرب أفريقيا مكاناً غير محتمل لاحتضان حدث ميلاد ثورة في مجال الطاقة. غير أنه إذا كان المروِّجون للاتجاه المستقبلي في الطاقة النظيفة على صواب، فإننا قد نتذكر جميعاً اسم بوراكيبوجو في المقبل من السنوات.
ذلك أن الموقع الذي يقع على بعد 55 كيلومتراً إلى الشمال الغربي من العاصمة المالية باماكو كان أول مكان على الأرض يشتغل بالهيدروجين الطبيعي – وهو عبارة عن غاز نقي يخرج من الأرض مثل النفط الخام أو الميثان. وتُعد هذه الظاهرة جد خارجة عن المألوف لدرجة أنه حتى الأمس القريب لم يفكر أحد من الجيولوجيين تقريباً في إمكانيات استغلاله. في 2011، قامت شركة «هايدروما» الموجود مقرها في مدينة مونتريال الكندية بإعادة فتح بئر ماء بالقرب من بوراكيبوجو في 1987 كانت قد أُغلقت بوساطة الإسمنت بعد أن تسبب الهواء المتصاعد منها في انفجار. وتبيّن أن الغاز المتصاعد من البئر يحتوي على 98% من الهيدروجين، والذي تم بعد ذلك إحراقه لتزويد القرية بالكهرباء.
سلسلة الأحداث هذه يبدو أنها تتحدى الكيمياء الجيولوجية التقليدية، على اعتبار أن الهيدروجين يُعد أحد أكثر العناصر تفاعلا - وهو أحد الأسباب التي تجعله يتحد بسهولة مع الكربون لصنع الوقود الأحفوري. ونتيجة لذلك، فإنه كثيراً ما يُفترض أن الهيدروجين النقي نادرٌ جداً في الطبيعة. وكثير ما يتم إغفال دوره لدرجة أن «كروماتوغرافيا الغاز» - وهي العملية التي يستخدمها الكيميائيون لتحديد تركيبة المخاليط الغازية - عادة ما تستخدم الهيدروجين كمادة حاملة، مما يجعل من المستحيل اكتشافها في العينات المستخرجة من الآبار الجوفية.
غير أن موجة متزايدة من الاكتشافات باتت تتحدى ذاك الاعتقاد السائد الآن، تماماً كما يبدو الهيدروجين المصنوع من المياه والطاقة المتجددة على وشك قلب دور الوقود الأحفوري في عدد من القطاعات الصناعية. وإلى جانب بوراكيبوجو، وجد المنقِّبون عن مصادر الطاقة تسربات للهيدروجين الطبيعي في كل من عُمان وكاليدونيا الجديدة وكندا وروسيا وأستراليا واليابان وألمانيا ونيوزيلندا.
وفي الأثناء، يفيد تقرير حديث بأن الكميات المكتشفة من الهيدروجين في فرنسا يمكن أن تسمح بإنتاج البلاد لقرابة 3 ملايين طن متري سنوياً – أي ما يناهز ثلث الهيدروجين الأخضر الذي يريد الاتحاد الأوروبي تصنيعه بحلول 2030. وتعتقد «هايتيرا»، وهي شركة أسترالية تنقب عن الهيدروجين الجيولوجي في الولايات المتحدة، أن بإمكانها إنتاج هذا العنصر بدولار واحد للكيلوغرام - وهو سعر قد تبدأ في منافسة الغاز الطبيعي به. كما قدّرت دراسة أجريت في 2020 أن إجمالي التدفقات العالمية للهيدروجين الطبيعي قد تصل إلى 23 مليون طن متري سنوياً أو أكثر.
والواقع أن تحولاً إلى الهيدروجين الطبيعي قد يمثّل الطريقة المثلى لتخليص قطاع النفط الحالي من الكربون – عبر تغيير المهارات في الجيولوجيا والاستفادة من السوائل الجوفية كوقود أخضر للمستقبل. ولكن هناك مشكلتان في هذه الرؤية الواعدة.
الأولى هي أننا لا نفهم سوى القليل عن الهيدروجين الطبيعي. فاستخراج النفط الخام يعود إلى العصور القديمة، وعلماء الجيولوجيا افترضوا أنه يأتي من انحلال مواد عضوية في القرن الثامن عشر، إذ اكتشف المنقبون أن هذه الأخيرة حوصرت وحبست داخل تشكيلات صخرية مطوية تحت الأرض قبل وقت طويل من تحويل «جون روكفلر» النفط الخام إلى تجارة كبيرة. وهذا الفهم العلمي - والثروة المعرفية التي تراكمت منذ ذلك الحين - يقلِّل إلى حد كبير من تكلفة التنقيب عن المحروقات.
وبالمقابل، نحن لا نعرف الكثير بخصوص الهيدروجين الطبيعي، بل إن العلماء منقسمون حتى بشأن كيفية إنتاجه، إذ تذهب معظم النظريات إلى ترجيح فرضية ظهوره في الأعماق تحت قشرة الأرض، أو نتيجة النشاط البكتيري، أو العمليات الكيميائية. ويبدو في كثير من الأحيان أن التسربات مرتبطة بضغوط دائرية غير عادية في الأرض، غير أنه لا يفهم جيداً سبب تشكلها.
وإلى أن يتم حل هاتين المشكلتين ورسم خرائط للخزانات الجوفية، سيكون من الصعب على شركات الهيدروجين الناشئة مواجهة عمالقة صناعة الطاقة. وقد تمثّل فرص «هايتيرا» في ولايتي كانساس ونبراسكا خياراً جذاباً كمواد وسيطة للأسمدة التي يتم استهلاكها في «السهول الكبرى» الأميركية، غير أن أي مصنع يتم إنشاؤه لاستغلال هذا المورد سيرغب في معرفة ما إن كانت الآبار ستستمر في الإنتاج لمدة 20 عاماً أو شهرين. والحال أن هذا الأمر ما زال غير واضح.
المشكلة الأخرى لها علاقة بالأولى. فهذه التقديرات التي تشير إلى 23 مليون طن سنوياً تبدو كبيرة جداً - لكنها في مجال الطاقة رقم تافه. فالاتحاد الأوروبي وحده يأمل في استهلاك 20 مليون طن سنوياً من الهيدروجين الأخضر المصنوع بحلول 2030، وحتى هذا الرقم بالكاد يكفي لإرواء تعطش العالم للوقود الأحفوري. ومن حيث الطاقة، تمثّل 23 مليون طن من الهيدروجين حوالي 2.76 إكساجول – أي ما يعادل كمية الغاز الطبيعي التي نستهلكها كل أسبوع.
وخلاصة القول إنها الأيام الأولى للهيدروجين الطبيعي، لذلك ينبغي ألا نشعر بالإحباط كثيراً. فلا أحد بحث عن هذه المادة حقا من قبل، والتنبؤات بشأن توفر الموارد المعدنية دائما تقريباً ما تكون تقديرات دون الكميات الحقيقية (في 1919، توقعت «هيئة المسح الجيولوجي الأميركية» أن يبدأ النفط في النفاد في البلاد في غضون عامين إلى خمسة أعوام).
وقد تصبح الاحتياطيات الغنية بالهيدروجين الطبيعي مستقبلاً المعادلَ المعاصر لحقول نفط الخليج العربي وسيبيريا وتكساس في القرن الحادي والعشرين. غير أنه كما هو الحال مع طاقة الاندماج، سيكون من الإفراط في التفاؤل المراهنة على ثورة في هذا المجال بحلول 2050.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسننج آند سيندكيشن»