منذ أن انطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة وهي في رحلة من التحولات المتعدِّدة الأوجه عبر طريق التطور والنمو؛ إذ تُعدُّ الدولة واحدة من أسرع دول العالم نموًّا وتطورًا، وشهِدت تحولات ضخمة على مدى العقود الماضية.

ومع التطور الاقتصادي والتقدم التكنولوجي تعرَّض المجتمع الإماراتي لتحولات شمِلت جميع النواحي الحياتية، وأوجدت فرصًا كبيرة للتطور والتقدم، وأدَّت إلى وصول دولة الإمارات إلى مراتب متقدمة في العديد من مفردات الحضارة، متجاوزةً كثيرًا من الدول المتطوِّرة؛ حتى أصبحت أيقونةً للحداثة على مستوى العالم في الحياة المعاصرة؛ ولكنَّ التحول والتطور هذين تصاحبهما تحديات يجب أن نقف عندها، ونتأملها؛ بحثًا عن طُرق للسيطرة عليها، وخفض تأثيراتها السلبية، وتعظيم جوانبها الإيجابية؛ من أجل الحفاظ على خصوصية النموذج الحداثي الإماراتي، الذي لا يزال -برغم حداثته- يحافظ على الموروث الثقافي الإماراتي في مكانة تليق به في الحياة العامة لأفراد المجتمع.

التحولات الثقافية

مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية واجه المجتمع الإماراتي تحولات ما بين التقاليد القديمة، والتطور الحديث الذي صاحب تطور نمط الحياة.

وبينما يحرص المجتمع على الحفاظ على القيم والتقاليد الإماراتية التراثية؛ فرضت أنماط الحياة الحديثة عددًا من التحولات فيها؛ فغابت بعض العادات والتقاليد، وصارت تُمارَس بصورة احتفالية أكثر منها بصورة اعتيادية، وتعرَّض بعضها لتغير يتناسب مع مفردات الحياة الحديثة.

وتؤدي هذه التحولات أحيانًا إلى توتر ثقافي بين الأجيال المتعاقبة؛ إذ تجد الأجيال الشابَّة نفسها محاصَرةً بين التقاليد والعادات المجتمعية التراثية ذات الجاذبية الهُوياتية؛ لكونها تؤطِّر لمفهوم الانتماء والاعتزاز بالهُوية الإماراتية، وتطلعات هذه الأجيال إلى ممارسة الحياة بناءً على مفردات الحداثة التي تنتمي إليها، وخاصة مع انغماسها في شبكات التواصل الاجتماعي، والتأثير الثقافي المتبادل الذي تتعرض له الأجيال الجديدة بسبب وجود ثقافات مختلفة ومتباينة في الدولة تتعامل معها بصورة يومية، إضافةً إلى تفاعلها مع المختلف الثقافي في أثناء رحلاتها إلى الخارج، سواء للإجازة أو للدراسة؛ وكل ذلك يحدِث حالة تغير في المفاهيم والعادات؛ وإذا لم ننتبه إلى هذه التحولات؛ فسنشهد -بعد جيلين أو ثلاثة في الأكثر- حدوث تحول كامل في ثقافتنا الإماراتية.

تحولات الأسرة

يواجه المجتمع الإماراتي تحولًا واضحًا في النمط الأسري؛ إذ كانت الأسرة الممتدَّة هي النموذج الأسري الغالب والسائد في المجتمع الإماراتي، ومعه يندمج كثير من القيم والعادات والسلوكيات المجتمعية الإماراتية؛ وكان النمط الأسري في دولة الإمارات يتميز بالتقاليد الثقافية والقِيم الاجتماعية القوية؛ كما كانت الأسرة المتماسكة والموحَّدة تُعد هيكلًا اجتماعيًّا رئيسيًّا؛ وكانت العائلة الواحدة تسكن في منزل واحد، أو بالقرب من بعضها بعضًا؛ وكان التواصل الاجتماعي والدعم النفسي داخل الأسرة من أهم الجوانب المرتبطة بالنمط الأسري التقليدي الممتد؛ ولكنْ نتيجةً للتحولات الحضارية الحديثة والاقتصادية اتجه النمط إلى الأسرة النووية التي تضاءلت معها قوة التواصل الأسري والدعم النفسي، اللذين يحصل عليهما الفرد من أفراد العائلة، وبدأت تُحدِث حالة من العزلة الفردية في محيط الفرد وأسرته النووية الصغيرة؛ وهذا التحول يُعَدُّ تحديًا يواجه الترابط المجتمعي والأمن الاجتماعي، وأسهم في نموه تطور الاقتصاد، وزيادة فرص العمل والتعليم للأفراد؛ ما أدى إلى انتشار ثقافة الاستقلال الاقتصادي والمالي والمهني للفرد بعيدًا عن العائلة؛ وبرغم خطورة هذا التحدي؛ فإننا لا نغفِل أن هناك مفردات حداثية تسهم إلى حد ما في خفض حدَّته، وتقليل آثاره، ومنها تقنيات الاتصالات المتطورة، وشبكات التواصل الاجتماعي، وشبكات الطرق العالية المستوى، ورفاهية امتلاك السيارات الخاصة؛ وكل ذلك يسمح بتعويض جزء من الترابط الأسري والعائلي المفقود في تحول نمط الأسرة داخل المجتمع الإماراتي.

وهناك كثير من التحولات التي يمكن رصدها في المجتمع الإماراتي؛ ولكنني لم أتوقف إلا عند هذين النوعين من التحولات؛ لأهميتهما الكبرى، وأثرهما المباشر في الأمن الاجتماعي للمجتمع الإماراتي.

ولا بدَّ أن ننتبه إلى أن استمرار هذه التحولات من دون مقاومة سيؤدي بعد جيلين أو ثلاثة -كما أشرت سابقًا- إلى حدوث تحول كامل في الثقافة والهُوية الإماراتيتين؛ ولذلك لا بدَّ أن ننتبه جيدًا إلى هذا الخطر.

وليست القضية في المظاهر الاحتفالية التي نحرص عليها في العديد من موروثاتنا الثقافية، وليس الحل بالارتداد إلى الخلف والحفاظ على الموروث كما هو؛ فدائمًا أقول إن الموروث الثقافي قابل للتغير، وهو أمر حتمي لا تُمكِن مواجهته؛ ولكنَّ هذا الموروث ينقسم إلى مظاهر ومبادئ؛ وحين يكون التغير في المظاهر؛ فهذا حتمي لا يمكن منعه.

وأمَّا القضية الكبرى التي يجب أن نعول عليها؛ فهي الحفاظ على المبادئ التي أنتجت تلك المظاهر؛ فالتماسك العائلي مبدأ نحافظ عليه، ولكنْ كيف نحافظ عليه؟ هنا يأتي دور المظاهر التي تختلف من زمن إلى آخر، وتخضع للتغيرات الحداثية الحتمية للسلوك الإنساني، مثل الاتصالات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وشبكات الطرق، ورفاهية امتلاك السيارات، التي تُعد جميعًا عوامل تعوِّض الانفصال المكاني للعائلات، وتحقق التعاضد والتعاطف النفسي بين أفراد العائلة الواحدة.

إن الحفاظ على الثقافة الوطنية، وحمايتها من التحولات، يبدآن وينتهيان عند إدراك المبادئ التي نشأت عليها ثقافتنا الوطنية، والحفاظ عليها وعلى حيويتها وقدرتها على إعادة إنتاج مظاهر ثقافية تتواءم مع التطور الحادث في مفردات الحياة.

الشيخة د/ شما بنت محمد بن خالد آل نهيان
رئيسة مجلس إدارة مؤسسات الشيخ محمد بن خالد آل نهيان الثقافية والتعليمية.