أيام قاسية يمرّ بها العالم حالياً. ليس سهلاً على المُشاهد أن يرى الموت، فكيف هو وقع الفاجعة على أهل غزّة الذين يعيشونها؟ ليست المرة الأولى التي يدفع فيها المدنيون الثمن في هذا القطاع، لكنه هذه المرة كان وما يزال عالياً للغاية.

الحصيلة الدموية تتغيّر بوتيرة سريعة، كما اليأس الذي «يزداد ساعة بعد أخرى» بحسب وصف أنطونيو غوتيريش. آلاف الأطفال والأمهات والآباء الذين قضوا، أو بقوا تحت الأنقاض، راحوا ضحية انتقام أعمى.

العقاب الإسرائيلي الجماعي الذي تعرّضوا ويتعرضون له لم ترتكب مثله في التاريخ سوى همجيات ما قبل التاريخ وما قبل الحضارة. الأبنية التي تسوّيها إسرائيل بالأرض أرادت إعدام الحياة بماضيها وحاضرها وتركها بلا أفق مستقبلي، وقيل إن المستهدفين كانوا المقاتلين من الفصائل المقاتلة، لكن هؤلاء لم يمثلوا سوى نسبة ضئيلة من القتلى. المساجد المدمرّة، الكنائس المتضررة، المستشفيات الخارجة عن الخدمة.. مثلت تهجيراً قسرياً للغزّيين.

وكل ذلك انطوى على انتهاكات فادحة للقانون الإنساني الدولي، وقبله للمبادئ والقيم والأعراف التي يفترض أن البشرية توافقت على احترامها.وعدا القوانين، هناك الضمائر التي لا تنفكّ تتحوّل إلى آلات خرساء، خصوصاً لدى القوى الكبرى التي تُعتبر حارسةَ القوانين وصانعة القرارات الدولية والمسؤولة عن العدل والعدالة في العالم. كثيرون من هذه القوى قالوا فور عملية «طوفان الأقصى» إن إسرائيل تعرّضت لعدوان قُتل فيه مدنيون أيضاً، وإن لها «الحق في الدفاع عن نفسها» ضد «منظمات إرهابية»، وهو ما تُرجم عملياً بالحق في «الانتقام».

قالوا إنه لم يكن هناك ما يبرر هجوم «حماس»، وكأنهم قرّروا أن غزّة هي لا شيء إلا «حماس»، أو كأنهم أرادوا تبرير كل ما كان أهل غزّة يعانونه من حصار للمدنيين قبل المقاتلين، وكل ما جعل من القطاع أكبر سجن مفتوح في العالَم. وعندما بدأ مجلس الأمن الدولي يناقش الأزمة والحرب المستجدّتين، كانت الحصيلة الدموية قد بدأت تعطي مؤشرات إلى أن ثمة توجّهاً إسرائيلياً مندفعاً نحو ارتكاب «إبادة». قيل ذلك في المجلس من قبيل التحذير، لكن بين «فيتو» و«فيتو»، بين إخفاقٍ وإخفاق في الاتفاق على وقف إطلاق النار أو على «هدنة إنسانية»، كان عداد الموت والإصابات والدمار يتصاعد. غزّة، السجن الكبير المرشّح لأن يصبح أكبر مقبرة لأهله.

لا قرارات من مجلس الأمن تُلزم حتى لو أُقرّت، ولا قرارات ملزمة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، هل يعني ذلك شيئاً آخر غير أن المجتمع الدولي بلغ حالاً مفزعاً من العجز والفشل؟ وهل استحالة إرادة دولية لوقف إطلاق نار «إنساني» و«فوري» تعني شيئاً آخر غير الترخيص بمواصلة القتل والتدمير؟

طبعاً، هذا ليس جديداً، بل تكرر في معظم الصراعات الدولية، وآخرها مستمرٌّ في أوكرانيا، وفي النزاعات الأهلية كما في سوريا، وبالأخص في القضية الفلسطينية التي تشغل المنطقة العربية منذ خمسة وسبعين عاماً، أي قبل زمن طويل من ظهور «حماس» وأخواتها، ولا حكمةَ في إهمالها مجدداً في انتظار أن يأتي أحفاد «حماس» لإعادتها إلى واجهة الاهتمامات الدولية. لقد تبيّن دائماً، وهكذا تقول دول «الفيتو» قبل سواها، أن الحلول «ليست عسكرية». لكن، إذا كانت «سياسية» فأين هي السياسة؟ ولماذا تنكفئ عندما تمسّ الحاجة إليها، أي عندما تكون هناك فرص لتجنّب أي تفجّر حربي أو لاستباقه؟

برهن العالَم على حاجته إلى إعادة تعريف التزامه بالسلام والإنسانية. الآن، بعدما وقعت الكارثة في غزّة، وبعدما أوضح الأمين العام للأمم المتحدة أن ما حدث لم يأتِ من فراغ، انكشف التقصير الدولي، لا سيما الأميركي، في استكمال ما كان «عملية سلام» على جدول أعمال المنطقة.

فالإهمال الذي حصل للقضية الفلسطينية لم يفتح فقط ثغرةً لاستغلالات إقليمية شتى لهذه القضية، ولم يتعمّد فقط تثبيط عزائم العرب وإبعادهم عن القضية، بل كذلك أفسح المجالَ للمتطرفين الإسرائيليين لانتهاج سياسات ترمي إلى إلغاء الشعب الفلسطيني، وهي التي ظهرت في دعوات التهجير من غزة إلى مصر ومن الضفة إلى الأردن. كما أن البحث الجاري في وضع غزّة ما بعد الحرب قد تُرتكب فيه أخطاء أكثر فداحة من الحرب نفسها.

*كاتب ومحلل سياسي - لندن