في اليوم الـ40 للحرب على غزّة أمكن لمجلس الأمن الدولي أن يصدر قراراً لم تصوّت له ثلاث دول كبرى (الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا)، فيما أيّدته الصين وفرنسا. لم يطلب القرار أكثر من هدنٍ إنسانية وممرات آمنة لإدخال المساعدات «بشكل كامل وسريع وبلا عوائق». كان على وكالات الأمم المتحدة أن تنفّذه، بالتعاون مع الأطراف الفاعلة على الأرض، لكن الجانب الإسرائيلي رفض الامتثال، وبعد ساعات كانت المنظمة الدولية تعلن أن عملياتها في القطاع تشهد مزيداً من الانهيار، مع استهداف مدارس وكالة «الأونروا» بالقصف فيما هي تؤوي الآلاف من النازحين.

صباح اليوم نفسه اقتحمت القوات الإسرائيلية مجمعَ الشفاء، وسط استنكار عالمي واسع، إلا أن النقاش في مجلس الأمن تجنّب الخوضَ في تلك الواقعة بغيةَ تمرير القرار الذي لم ينفَّذ. ولم يعنِ ذلك سوى أن الشأن الإنساني بات بلا أي قيمة حتى عندما تتفق غالبية كبيرة في مجلس الأمن على احترامه. ما المطلوب، إذاً، في هذه الحرب؟ أن تأمر الفصائل الفلسطينية مقاتليها بوقف القتال وتعلن الاستسلامَ، لكي يستطيع الجيش الإسرائيلي إعلان انتصاره.

ولأن كلا الأمرين مستبعد فإن الحرب ستستمر، لكنها أسفرت حتى الآن عن عشرات آلاف الفلسطينيين بين قتيل ومفقود وجريح، وعن دمار هائل في كل أنحاء القطاع، وبالأخص في شماله، وعن مئات آلاف المقتلَعين من مساكنهم فأصبحوا بلا مأوى أو تحت خيام مع بدء موسم الأمطار.

وبموازاة ذلك أدّى الحصار الإسرائيلي إلى انقطاع الكهرباء عن المستشفيات والمَرافق، وإلى فقدان المياه، ثم الأدوية، وتفاقمت الأزمة المعيشية وصار تناقص الغذاء يهدّد بمجاعة، فضلاً عن ظهور أمراض ناتجة عن تلوّث المياه. وبين الموت والتشريد والجوع ليس هناك أسوأ مما يمكن أن يتعرّض له إنسان، ولا أسوأ من أن تتبيّن البشرية أنها تتعرّض في مكانٍ ما وفي السنة 2023 لما يعيدها إلى العصر الحجري.

وكانت الدول العربية والإسلامية قد توصّلت، في قمة مشتركة، إلى جملة توافقات يمكن اختصارها بواحد: «وقف الحرب»، وهو ما أصبح مطلباً عالمياً، سواء في تظاهرات الشوارع أو في النقاشات الداخلية لحكومات دعمت إسرائيلَ وتَعتبر الآن أن حربَها تجاوزت «حق الدفاع عن النفس». ليس مطلوباً فحسب وقف الحرب لتدارك تدهور الأوضاع الإنسانية الذي نال من الأطفال والنساء والمسنّين والمرضى والمصابين، بل مطلوبٌ أيضاً العكوف على القضية الفلسطينية المتروكة بلا حلول منذ أكثر من سبعة عقود. هناك إجماع دولي على أنه لا يمكن اجتثاث هذه القضية ولا إنهاؤها بإبادة الشعب الفلسطيني مهما بلغت ضراوة الأسلحة.

وإذ انبرت ثلاثة أصوات إسرائيلية على الأقل للدعوة تصريحاً أو تلميحاً إلى استخدام السلاح النووي، فإن ردود الفعل الدولية والعربية كانت بالغة الحزم في استنكار مجرّد التفكير في أمر بهذه الخطورة. لا بدّ أن تكون هناك نهاية لهذه الحرب، لكن سكوت الصواريخ والمدافع لا يشكّل معالجةً كافيةً وصحيحة للمشكلة الأساسية، خصوصاً مع التعقيدات والصعوبات الإضافية التي طرأت عليها بفعل الحرب نفسها. إذ إن العمليات العسكرية لم تهدف فقط إلى الانتقام من الفصائل بل تعمّدت التدمير لمعاقبة المدنيين في غزّة وفرض التهجير القسري عليهم ودفعهم عنوة للنزوح نحو الأراضي المصرية، فيما لا يخفي متطرّفو اليمين الإسرائيلي عزمَهم على تهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن. هناك حلول ممكنة لإشكالية إدارة قطاع غزّة بعد الحرب، لكن تطبيقها رهن بإرادة دولية تبحث جدياً عن حلول ولا تواصل نهج الإهمال الذي راكم المشاكل وأدّى إلى انفجارها في السابع من أكتوبر الماضي.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن